تآلف الأردنيون مع التصريحات الدورية التي تقدّمها إدارة السير حول أعداد الوفيات بسبب حوادث الطرق، مستسلمين لقناعات إيمانية بأن وقوع أكثر من 100 ألف حادث في العام الواحد (بمعدل 300 في اليوم الواحد)، وزهْق أرواح المئات وجرح أكثر من 10 آلاف إنسان يعد قضاءً وقدراً، في نكران تام بأن أغلب هؤلاء هم ضحايا لجرائم قتلٍ متعمّد المسؤول الأول عنها هي الدولة ويليها أفراد ارتكبوا أخطاءً لا تغتفر.
ليس تجنياً توجيه هكذا اتهام إذا دققنا بالإحصائيات المتوافرة لدى المعهد المروري الأردني، فأولى المؤشرات يدلّ عليها عدد السيّارات في الأردن الذي تجاوز في عام 2014 (أحدث بيانات ينشرها الموقع الإلكتروني للمعهد) مليوناً و300 ألف مركبة، بينما لو أجرينا مقارنة بمجموع المركبات في السويد، الذي يتساوى في عدد سكّانه مع الأردن، لوجدنا أنها لا تصل أكثر من 235 ألف مركبة، مع العلم أن دخل الفرد هناك هو ضمن أعلى خمسة بلدان في العالم كلّه.
هذا الرقم يعني أن الدولة الأردنية فشلت في تأسيس شبكة مواصلات عامّة، داخل المدن وبينها، تكون آمنة وسريعة وتعمل طوال ساعات اليوم، مما اضطر غالبية المواطنين الذين يُفترض بهم أن يستخدموا الحافلات أو القطار أن يستدينوا من البنوك لشراء سيارات، ولأن أعدادها في ارتفاع دائم فيبدو أن تخفيض معدلات حوادث السير هو أشبه بمعجزة.
تعاني مدننا العربية، ومنها عمّان، عجزاً في استيعاب الملايين الوافدين إليها بسبب هجرات داخلية وخارجية عبر تأمين فضاءات عامة، وفي مقدمتها النقل، وهو ما يخلق مزيداً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بدءاً بالاختناق المروري وارتفاع حوادث الطرق، ومروراً بفقدان التفاعل الإنساني بين هذه المكوّنات المتنوعة، وليس انتهاء بتعاظم الإحساس بالتهميش والإقصاء لعدم تمكّن فئات عديدة من الحصول على مزايا (سكن مناسب وسيارة ووسائل ترفيه بأسعار مرتفعة) أصبحت أساسية للعيش في مدينة عربية، بينما هذه المزايا متحققة بتكلفة أقل في مدنٍ تعدّ الأكثر تقدّماً في العالم.
عاملٌ آخر لا يمكن تغافله وتتحمل مسوؤليته الدولة كذلك، ويتمثّل بتراجع أوضاع أغلب الشوارع، وخاصةً الخارجية منها الموصلة بين المحافظات، وتهاوي بنيتها التحتية يجعل السرعة المقررة على هذه الطرقات أقل بكثير مما هو مسموح به في دول كثيرة، وليس مستغرباً أن تتجاوز نسبة الحوادث عليها 95% في الظروف العادية (لا أمطار ولا ثلوج وغيرها).
ما يستحق التأمل أيضاً أن حوادثنا لا تقع في أوقات متأخرة من الليل أو في الصباح الباكر، حيث تستأثر فترات ما بعد الظهيرة (بين الواحدة والسابعة مساءً)، أي منذ مغادرة الطلبة مدارسهم ثم موظفي الحكومة ثم العاملين في الشركات الخاصة، بحوالي نصف عدد الحوادث. رغم أن هذه الفترة تكون ظروف القيادة في أفضل أحوالها من حيث الرؤية والإضاءة والطقس، إلاّ أن التوتر والضغط وضيق الخلق تبدو مسيطرة على مجاميع بشرية باتت لا تحتمل مشهد احتشادها في ساعات الذروة.
وبحسب المعطيات المنشورة ذاتها، فإن ما يقارب 33% من سكّان الأردن يمتلكون شهادة قيادة (رخصة)، وهي نسبة مقلقة لارتفاعها - إذا علمنا أن 45% لا يمكنهم امتلاكها لأنهم دون الثامنة عشرة عاماً- ما يعني عدم أهلية جزء من حاملي هذه الرخصة، ونيلهم إياها من دون استحقاق، إذ تبيّن الإحصائيات أن الحوادث الناتجة عن التتابع القريب وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة في أثناء القيادة هي نصف مجموع الحوادث المسجّلة سنوياً.
حسبة أخيرة تتعلّق بالخسائر الإجمالية المترتبة على هذه الحوادث، حيث تشير البيانات نفسها إلى أنها قد كلّفت خزينة الدولة أكثر من مليارين ونصف مليار دينار أردني، وهو رقم يتطلب مداخلة من اقتصاديين لنتبيّن إمكانية استغلاله في تحسين طرق غير صالحة لاستعمال البشر أو إنشاء جديدة غيرها.
جرائم القتل المتعمد على الطرقات تشكّل انتهاكاً صارخاً لحقنا في الحياة، والحفاظ عليها مسألة ترتبط بتطوّر المجتمعات واقتصادها وثقافتها التي ستتغير حتماً ولن نبقى نتعامل مع حوادث الطرق باعتبارها قضاءً وقدراً.
محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.