حكومة الصدقات
يختزل عيد الفطر أزمات مجتمعنا بمستوياتها المختلفة؛ عشرات ملايين الأموال التي تُنفَق على سبيل الصدقات في الوقت الذي تغيب فيه الدول عن القيام بواجبها لحل مشكلات الفقراء والمعطّلين عن العمل وغيرهم، ورغم التوسع في الصدقة إلاّ أن الفقر والبطالة في ارتفاع متواصل.
الصدقة تُعبّر عن بنية اجتماعية اقتصادية تقبض على الثروات وترفض توزيعها بعدالة على نحو يخلق تنمية حقيقية، وهي لا تزال حاضرة إلى يومنا هذا، وأحياناً بصورة كاريكتورية، إذ أوردت إحدى الصحف المحلية أن رئيس الوزراء هاني الملقي يؤم المصلّين في صلاة المغرب يوم الخميس الماضي، على هامش الإفطار الذي نظّمته غرفة تجارة الأردن، ويتلو عليهم آيةً تحض على الصدقات في الركعة الثانية.
الحكومة التي تؤم الناس، تفشل في إنشاء مشاريع إنتاجية يمكنها أن تسد العجز المتراكم، بعد أن وصلت نسبة الديْن العام حوالي 92% من إجمالي الناتج المحلي، وهي تقوم بدلاً من ذلك بتكريس "ثقافة الإحسان" عبر جمع التبرعات في المناسبات الدينية وتوزيعها على المحتاجين، من أجل أن تريح ضمائر المتبرعين وتنزع عنهم مشاعر الذنب، وأن يستحقوا عليها "الحسنات" بالطبع، من دون التفكير للحظة أنه مجرد تخدير موضعي آنيّ بانتظار موسم التبرع المقبل.
بعد أن تسري هذه الراحة "المتوهمة" في نفْس الحكومة وجموع المحسنين، نذهب بالضرورة إلى مستوى ثانٍ يتعلق بجهات تحتكر إدارة الزكاة والصدقات وتوجيه إنفاقها ممثّلة بجمعيات ومراكز دينية تنتشر في جميع مناطق الأردن، وهو ما يمكّنها من زيادة حجم نفوذها في مجتمع يتراجع فيه دور الدولة وكذلك النقابات وبقية الأطر التنظيمية لمصالح الناس.
إمام الأردنيين ورئيس حكومتهم يُخفق، كما سابقيه، في تحصيل المساعدات التي أقرّتها دول الخليج ولم تف بكاملها إلى الآن، بينما بات القاصي والداني يعلم أن هذه الجمعيات الدينية تنال دعماً ثابتاً من جهات خليجية وبمئات الملايين، في اختراق صارخ للقانون الأردني، وتغاضٍ من قبل مرجعيات عليا تدرك تماماً أنها تتقاسم معها الأدوار؛ الأجهزة الرسمية تحكم الدولة والقوى السلفية وجماعة الدعوة والتبليغ وغيرها تهيمن على المجتمع، ولابدّ من الإشارة هنا إلى "الخطة الوطنية لمواجهة التطرف" التي نُشرت الشهر الماضي تبرهن على صحة هذا الاستنتاج.
لنقدّم حسبة مالية، مجموع زكاة الفطر وحده يقدّر بأكثر من 15 مليون دينار أردني، وهو مبلغ كافٍ لإقامة مشروع اقتصادي يشغّل العشرات، علماً بأن التقديرات الأولية لحجم الصدقات والتبرعات التي تقوم بها الجهات المذكورة تنوف عن المليار سنوياً، ما يمكن أن يساهم في إنشاء مشاريع عديدة، لكن إقامتها ينهي وجود بنية منظّمة تدعي تمثيل الدين بينما هي تتلاعب بالمال والعقول لبقاء وجودها وتأثيرها.
تطلّب فرْض "ثقافة الإحسان" علينا طوال قرون حسم مسألة أساسية تتمثل في التسليم والخضوع والامتثال إلى أن رجال الدين يمتلكون معرفة غير متأتية لنا تتيح لهم تأويل النص القرآني ومدوّنة الحديث النبوي وما تراكم عليهما من "مقدسات" كما يشاؤون، رغم أن هذه الخرافة هم من ابتدعها في القرن الثالث الهجري وألزمنا بها.
خرافة تقيّدنا منذ 12 قرناً، ولم يكن لها أن تسود لولا تكريسها لهذه التراتبية الاجتماعية؛ كهنوت يمتلك الحقيقة المطلقة ورعايا لا يمتلكونها، وبذلك حُرمنا من تعلّم الفلسفة والمنطق وأي علوم تساعدنا في نقض خرافتهم، ولتكتمل الدائرة أقرّوا لنا بصدقة تحول دون تأسيس اقتصاد إنتاجي يغنينا عن سؤال الحاجة.
نحتفل باستلابنا لمنظومة تُجهّلنا أو لا تقيم وزناً لأي معرفة نبلغها، وتُجبرنا على دفع صدقات لن تمحو الفقر والفاقة ذات يوم، بينما علينا الاحتفال بتحررنا من هذه التبعية والأوهام ومن حكومة تلهينا بالصدقات عن تنفيذ واجباتها ومسؤولياتها تجاه شعبها.
محمود منير: كاتب صحافي. محرر "تكوين" في "عمّان نت".