حكايات الكذب والهويّة
كذبة نيسان تخيفني، ترتبط عندي بذكريات سيّئة، وأنتظر أن يمضي يومها على خير جتّى تطمئنّ نفسي. جارتنا الحاجّة آمنة، التي كانت سبعينيّة وقتها، كذبوا عليها ذلك اليوم، فقالوا لها إنّ ابنها الذي كان موقوفاً بتهمته متاجرته بالعملة الصعبة، أيّام منعها، والذي قد يواجه حكم الإعدام، قد أفرج عنه، وهاهو يطرق الباب، سارعت لتفتح له، فتعثّرت، وكسرت رجلها، وكان ذلك الكسر الذي يسمّى بكسر الموت، الذي لم يمهلها طويلاً، فقضت بسبب كذبة نيسان.
دائماً تتداعى لديّ مع هذه الحادثة ذكريات محدّدة، ترتبط بالمزاح السمج، فأستعيد قصّة كان قد قرأها (الغريب) بطل كامو، وهو في سجنه بعد أن قتل الرجل العربيّ، حيث يمدّ يده في الزنزانة تحت الفراش، ليمسك بقصاصة جريدة، كتبت فيها قصّة حدثت في تشيكوسلوفاكيا، إذ يغادر رجل قريته سعياً وراء الثروة، وبعد خمس وعشرين سنة يعود غنيّاً بصحبة زوجة وابن، وكانت أمّه تدير نزلاً مع أختها في مسقط رأسه، ولكي يفاجئهما، يترك زوجته وابنه في مكان آخر، ويقصد إلى أمّه، فلا تعرفه حين يدخل عليها، فيستأجر غرفة في الفندق، ويريها ماله. في الليل تقوم أمّه وخالته بقتله بمطرقة لتسرقاه، وترميا جثّته في النهر. في الصباح تأتي الزوجة، وتكشف الحقيقة، فتشنق الأمّ نفسها، وتلقي الخالة بجسدها في بئر!
لا شكّ في أنّ الأفكار، والمعتقدات، بل حتّى الأساطير التي قامت عليها كيانات جماعيّة، والتي تسود في ثقافة ما، هي شكل من أشكال الطاقة، لا تموت ولا تخلق من العدم بل تتحوّل من شكل إلى آخر، وما يبقى منها مع التحوّلات الثقافيّة- السياسيّة عبر آلاف السنين يتحوّل إلى أدلوجات، وأخيولات، وحكايات، تلعب فيها الصراعات على السلطة دوراً رئيساً، إذ يعودكلّ نسق إلى بنية قارّة في التاريخ المدوّن أو الشفهيّ ويتمسّك بها، بوصفها السند أو المرجعيّة التي تمنح وجوده مصداقيّة أو تدعم وجهة نظره، ودائماً يركن النسق المسيطر أدلوجته أو أخيولاته على الرفّ، فهو لم يعد بحاجة إليها، إذ باتت مستقرّة في الوعي الجمعيّ، في حين يحتاج النسق التابع، أو المهمّش، أو الخارج، أو المسيطَر عليه، دعم وجوده بتفعيل تلك الأدلوجات والأخيولات والحكايات، لذا تنشط الفنون، والكتابة عند تلك الأنساق أو الذين ينتمون إليها، فنجد أساطير تكوين البنية وحكاياتها ثيمة رئيسة في نصوص ما تسمّيها الأنثروبولوجيا : الأقليّات الكبرى، وربّما الصغرى، وكتابة الضحايا والمهمّشين عموماً، والتاريخ الإسلاميّ حافل بتلك البنى القوليّة أو المدوّنة، التي تشير إلى جاذبيّة الرواية الأخرى للتاريخ، التي تكون حارّة: السير الشعبيّة، بكائيّات الحسين، الأصوات المعارضة للمتن...
لا تتهم السرود الأدبيّة بالكذب، لأنّها لا تدّعي الحقيقة أبداً، لكن ثمّة حكايات، تنبتّ عن أصلها مع مرور الزمن، وتصير أيقونيّة، وهنا سنعود إلى أصل كذبة نيسان أو إلى حكايتها المرجعيّة:
كانت السنة السوريّة القديمة تبدأ في الأوّل من نيسان، وهذه التسمية آراميّة، وقد أخذت بهذا التقويم ممالك متعاقبة: أوغاريت، وإيبلا، وماري، وتدمر، ودمشق، ونقلت مع العرب إلى الأندلس. يمثّل الأوّل من نيسان بداية الربيع في هذه الجغرافيا، ويحتفل به بوصفه فصل المنح والخصب، حيث تبدأ الاحتفالات في الحادي والعشرين من آذار، الذي صار يوم الأمّ، ويوم الشعر، ويوم الانقلاب الربيعيّ، وتتخلّلها كرنفالات ورياضات ورقص وقرابين، وعقود زواج جماعيّ لمشاركة الأرض حالة خصبها، ومحاكاتها، والتبرّك بها، والاحتفال بعشتار. تستمرّ الاحتفالات حتّى العاشر من نيسان حيث يمنع تأنيب الأطفال، ومعاقبة العبيد، والقيام بالأعمال اليومية، وانعقاد المحاكم.
تقول رواية أخرى إنّ هذا اليوم هو يوم فراغ ألوهيّ عند البابليّين، ومن بعدهم الآشوريون، أشبه بالفراغ الدستوريّ، حيث يتمّ فيه إبدال الألواح القدريّة، فتكون فوضى وإباحة، يتخلّى فيه الملك عن سلطانه لأحد الرعاع، ويستردّ ملكه في نهاية اليوم.
حينما حكم الرومان سورية حاولوا تغيير التقويم ومنحوا الأيام أسماء أباطرتهم، وفرضوها، فكان يوليوس وأغسطوس، لكنّها لم تغيّب التسميات السوريّة التي ما زالت ماثلة إلى اليوم. أمر ملك فرنسا شارل التاسع قبل حوالي خمسمئة عام باعتماد التقويم الغريغوريّ، وتمّنقل رأس السنة من أول نيسان إلى أوّل كانون الثاني، فسمّي اليوم البائد بـ April fool، أي أحمق نيسان، وهي سمة تطلق على الشخص الذي ينسى أو يتجاهل أنّ رأس السنة قد تمّ نقله بعمليّة نزوح للهويّة، وتحوير لها.
أيّام كذبنا كثيرة، إذ تتبدّل ألواحنا القديريّة كثيراً... وفي كلّ حال علينا الحذر من ملاقاة مصير جارتنا الحاجّة آمنة، رحمها الله، والذي كان بسبب كذبة نيسان.
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.