ثقة آخر زمن
مفهوم ان يقوم نائب بمنح الثقة للحكومة بعد تأييده لبرنامجها, ومفهوم ايضا ان يحجب آخر ثقته بعد ان اقتنع بعدم قدرة الحكومة على تنفيذ ما جاء ببيانها. اما ان نرى نوابا يشتمون الحكومة واعضاءها ويصفونها بأبشع الاوصاف ثم يمنحونها الثقة, فهذا امر عجيب نكاد لا نراه الا في الاردن بعد ان كانت الدوائر الوهمية اكثر عجباً .
ما شاهده المواطن للوهلة الاولى من خطابات رنانة للنواب الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة الا ونعتوا بها حكومة سمير الرفاعي , ولدت انطباعا ايجابيا عند الشارع من ان هؤلاء النواب يعرفون كل تلك القضايا التي تحدثوا عنها من فساد وسوء في الانفاق والتعيينات وهدر في الموارد والمحسوبيات والوساطات وتعثر الاصلاحات وغيرها من القضايا التي يشيب لها الولدان, تلك الامور جعلت المواطن يشعر بان الرقابة والمساءلة عنوان المرحلة, ليصطدم بعد ذلك برؤية هؤلاء النواب يمنحون ثقتهم المطلقة للحكومة وهم من هاجم وهدد ووعد, لينطبق عليهم المثل الشهير "اشبعناهم شتما وفازوا بالابل".
لا شك ان هناك تفسيرات مختلفة تبرر سلوك النواب المخالف لاقوالهم, فالبعض يرى انهم غير مبالين لموقف قواعدهم الانتخابية غير المكترثة اساسا بموضوع الثقة بالحكومة, وقد يدفع البعض بالقول انه اصلا لا يوجد ناخبون لبعض النواب على اعتبار انهم انتخبوا في دوائر وهمية
غالبية النواب وهم جدد يفتقرون الى الخبرة في العمل العام ولا يعون جيدا مفهوم المعارضة البناءة التي تخدم الوطن, ويتسترون وراء منحهم الثقة بان هذه حكومة جلالة الملك. وهو تحليل ساذج بعيد عن المصلحة العامة التي تقتضي من كافة الجهات التدقيق على اعمال الحكومات ومساءلتها وعدم التهاون في المصلحة العليا التي شدد عليها الملك في خطاب العرش السامي وانها امانة في عنق كل من يتولى المسؤولية العامة.
لكن بعض النواب اراد ان يظهر للحكومة عينا "حمراء" في كلمته وهو في نفسه يريد من الحكومة خدمات وامتيازات. وهو يعتقد ان هذا الاسلوب يُحَمّل الحكومة جميلا بمنحه الثقة بعد ان هاجمها امام الرأي العام .
وقد يفسر سلوك النواب بمنح الثقة على هذا الشكل الغريب ان هناك اتصالات جرت في الكواليس مع النواب من قبل مرجعيات مهمة مارست ضغوطاً مّررت صفقة الثقة عليهم.
الانطباعات الاولية للمراقبين حول شكل العلاقة بين السلطتين بعد الثقة تدور اليوم حول عدة ركائز اولها ان الحكومة لن تبالي من اليوم وصاعدا لما يقوله النواب اصحاب الاصوات العالية, فلا مصداقية منهم, خاصة اولئك الذين وصلت انتقاداتهم الى اعلى السقوف ثم بعدها منحوا الثقة.
الحكومة تدرك تماما ان عمرها لن يمتد الى الدورة النيابية العادية المقبلة وبالتالي, لا يوجد ما يقلقها. وستحاول بعد ان فازت بثقة غير مسبوقة ان تجعل علاقتها مع النواب علنية وهو امر لن يعجب الكثير من النواب الذين يتطلعون الى قناة اتصال غير معلنة مع الحكومة .
الحكومة تدرك ان هذا الحجم الكبير من الثقة لا يعني على ارض الواقع شيئا, وكل من تعنيه هذه الثقة الكبيرة هو الرئىس الذي سيتبناها في نادي رؤساء الوزراء على انه الاعلى ثقة في تاريخ المجالس النيابية. لكن الرئيس يدرك ان من دَعَمه في الحصول على الثقة في المجلس النيابي هو من سيجعل الحكومة تعيش اياما غير مسبوقة من المساءلة.
على أية حال, ليس مستغربا من نواب هذا التصرف الغريب "يقولون ما لا يفعلون". واليوم الكل يبدأون الترحم على المجلس السابق المنحل, والجميع بات مقتنعا بان الاصلاح لا يمكن ان يكون من المجلس الحالي. فالمسألة بحاجة الى اصلاح جذري يعيد تأهيل الوعي العام من جديد في التعاطي مع الشأن العام, والواقع يشير ان الامور تسير للوراء بدلا من الامام. وفي النهاية نقول للقراء "غطيني يا صفية مافيش فايدة".
العرب اليوم