ثقافة التحريض والكراهية
منهج التحريض وإثارة الكراهية منهج اجتماعي وسياسي متبع تلجأ إليه بعض الدول وبعض المنظمات وبعض الأشخاص على مستوى محلي وعالمي، يتجلى دائماً بامتلاك المهارة في تشويه الآخر، والإساءة إليه عبر طرق كثيرة ووسائل عديدة، تتطور مع تطور الزمن وتطور آليات الاتصال، وما يصاحب ذلك من أساليب خداع الجماهير وتضليل العامّة، وأصبح ذلك فنّاً من فنون الحرب الباردة، له فلاسفته وأساتذته وأتباعه، كما أصبح يلقى رواجاً في ظل انحطاط القيم وغياب الوازع الديني والأخلاقي، وتفكك الروابط الاجتماعية، وتدهور العلاقات الثقافية والحضارية بين شعوب العالم ومجتمعاته.
منهج التحريض وإثارة الكراهية أنتج أدباً وثقافة، وأخرج صحافة محلية وعالمية تقتات على اغتيال الآخر وتحطيم الخصوم وإثارة الأحقاد وإشعال الفتن؛ من أجل التفرد في المغانم، وإشباع نهم المال وجشع السلطة، وشهوة الانتقام، وحب الظهور، وعشق الأضواء، والاستحواذ على المقدرات بطريقة أنانية مقيتة، تتجلى بسلوك فئوي أو حزبي أو مذهبي أو نخبوي أو فردي في بعض الأحيان.
أغلب الحروب عبر التاريخ البشري تتغذى على ثقافة التحريض والكراهية، وتنبع من تغذية الشعور بالتفوق والاستعلاء الذي يؤدي إلى ازدراء الآخر واحتقاره، ويتعمّق هذا الشعور ليثمر سلوكاً عدوانياً بشعاً يهدف إلى الإقصاء والنفي والإبعاد والاجتثاث، وما السلوك الاستعماري الذي انتهجته الدول العربية تجاه الآخرين إلا ثمرة من ثمار هذه الثقافة المرة، المصحوبة بعقدة الدم الأزرق النبيل وعقدة تفوق الرجل الأبيض، وظهر في أوروبا الفكر النازي والفاشي الذي قاد حقبة تاريخية مليئة بحروب الإبادة ضد الجنس البشري، وأشعلت حروباً عالمية حصدت الملايين من الأرواح البشرية.
ثقافة التحريض والكراهية هي وليدة فكر إنساني مريض، وتربية منحرفة تؤدي إلى إخراج فئات مريضة وعصابات منحرفة، تستبد بالسلطة وتستولي على مصادر القوة، وتستخدمها في تحطيم جسور التواصل بين الشعوب، وتقطع أواصر القربى بين المجتمعات وتبني جداراً من الحقد الأعمى تنشأ عليه الأجيال الجديدة التي تؤمن بفكر صِدام الحضارات، وسيادة منطق القوة وإفناء الخصم ونفيه من الوجود.
هذا المنهج المريض يظهر في سلوك أحزاب وفئات وأشخاص في مجتمعاتنا المحلية كذلك، فيسلك بعض الأشخاص مسلك التحريض والتشويه من أجل أن يجد لنفسه مكاناً، ولا طريق للوصول إليه إلاّ عبر هذا المنهج التحريضي الذي يغطي فيه على عجزه وخوائه الفكري، وربما تلجأ بعض الأحزاب وبعض الفئات إلى الأسلوب نفسه في سبيل البحث عن بعض عناصر الوجود على مسرح الأضواء من خلال الإساءة إلى الآخرين والتفنن في تشويه سمعتهم وصورتهم في المجتمع، وعن طريق التزلف لأصحاب القرار وأهل المسؤولية والنفوذ واستخدام المحرمات كلها.
ينبغي أن نصل إلى مرحلة جديدة يعترف أحدنها فيها بوجود الآخر، ويعترف بحقه في الحياة وحقه في المشاركة، وأن نصل إلى تلك الدرجة التي يسودها الاحترام المتبادل والقدرة على التعامل مع الاختلاف بطريقة حضارية، وأن نرسي ثقافة الحوار الفردي والمجتمعي، وأن نبحث عن التوافق الجمعي الذي يرتكز على المرجعية القيمية المستمدة من حضارة الأمّة وتراثها الثر، والاستفادة من التجارب الإنسانية الناجحة التي استطاعت صهر الاختلافات الدينية والعرقية والمذهبية والفكرية في إطار الوحدة الكبرى التي تتسع لهذا التباين الواسع وتوظفه بطريقة ايجابية فاعلة تحقق المصلحة العامة للأطراف جميعها بلا استثناء.
الوصول لهذه المرحلة يقتضي تشجيع الجهود التي تدعو إلى إزالة عوامل التوتر والاحتقان، وتبدد المخاوف، وتقاوم الجهود كلها التي تدعو إلى التأزيم وإثارة الأحقاد، وتحاصر المحرضين ومثيري الكراهية بين مكونات المجتمع، وتبني بيئة التعايش المفضي إلى التعاون والتفاهم والتكامل من أجل القدرة على البناء والإعمار.
العرب اليوم