تفضّل بالنزول
خاص لــ عمّان نت
يُنصت سائق التاكسي باهتمام وتأثر بالغيْن إلى مذيع البث المباشر - في إحدى الإذاعات التي تسِم نفسها بـ"الدينية" - وهو يعلّق على حادثة إطلاق نار في منطقة أبو علندا في العاصمة، باستنكاره "الجريمة" مع رفضه التام مصادرة الأسلحة في الوقت نفسه.
المذيع، الذي يقدّم برنامجاً يعرض شكاوى المواطنين على الهواء، بات يعتقد مثل غيره من المشتغلين بهذه البرامج بأنه شخصية عامة يحق لها إبداء وجهات نظر تخالف القانون والمنطق، متذرعاً بأنّ الحادثة تعبير عن أزمة رجولة لا سلاح.
استعادة "الرجولة وعصرها" أنجح وأسهل من وقف حالة الفوضى المنتشرة في مناطق متعددة في الأردن، إذ تشير الأرقام إلى وجود أكثر من مليون قطعة سلاح غير مرخصة!
انزعج سائق التاكسي من هجومي على مذيعي برامج البث المباشر لأنهم ينوبون عن البرلمان ودولة المؤسسات والقضاء وهيئات الرقابة ومكافحة الفساد المغيّبة، معدداً مشاكل كثيرة جرى حلّها عبر تدخلهم، ثم أخرج من جيبه "قصاصة"، وبدأ تقليم أظفاره خلال انتظاره إشارة المرور الخضراء.
مذيعون يشيدون بالخطاب الرسمي ورموز النظام صباح مساء، وكل ما يقومون به هو تجزيء معاناة الناس وتبسيطها، والإيحاء دوماً بأنها قضايا تفصيلية يمكن علاجها بيسر وسهولة، وأنها غلطة "فردية" لمسؤول بعينه، بينما الحكومة وسياساتها معفاة من اللوم.
ونتيجة سطوة الأمن على أغلب الإذاعات المحلية، تكرّس عدد من الإعلاميين بوصفهم النموذج الأمثل للوطنية والانتماء، والمؤهلين لتقديم آرائهم في جميع المستجدات ضمن قواعد وأحكام معروفة: "الأمن والأمان أغلى ما نملك"، و"احنا أحسن من غيرنا".
وعند الحاجة إليهم، تتحول برامجهم إلى مادة تحريضية ضد فئة أو شريحة بعينها، وقد خبرنا ذلك سواء في أثناء الاحتجاجات الشعبية، أو ضد أشقاء عرب مقيمين بيننا.
الأخطر من ذلك كلّه تكريس قيم فضفاضة غير متحققة مثل: الرجولة والنخوة والشرف والغيرة وغيرها، بدلاً من مفاهيم المواطنة والمحاسبة وإنفاذ القانون..
لم يحتمل سائق التاكسي اعتراضي على مذيعه المفضل وكذلك على تقليمه أظفاره في وجهي، فسارع إلى التوقف، والقول بعصبية: تفضل بالنزول
"تفضّل بالنزول" ليست مقولة سببها غضب عابر، إنما هي انعكاس لثقافة مجتمع بأسره، لا يقبل التعدد الاختلاف، وأبناؤه لا يميزون بين الفضاء العام وحيزهم الخاص، ويلجؤون إلى مذيعي البث المباشر لمواجهة عجزهم.