انتخابات تأسيسية لمرحلة واعدة

انتخابات تأسيسية لمرحلة واعدة
الرابط المختصر

وأنا في طريقي، مشياً على الأقدام، إلى مركز الاقتراع القريب نسبياً من مكان سكني، تذكرت أنها المرة الأولى التي أدلي فيها بصوتي في الانتخابات النيابية منذ أكثر من عشر سنوات؛ إذ كنت طوال تلك الفترة الطويلة أفتقد الحافز الداخلي، وأتحسب من أن نتاج مثل هذه العملية غير الشفافة تكون محسومة سلفاً، وفق ما كان يلوح من مظاهر لا حصر لها، دالة على شكلية تلك الانتخابات المطبوخة وراء أبوب مغلقة.

في هذه المرة، شعرت أن هناك فرقاً، وأن لي صوتاً لن يذهب سدى، وأن لي حقاً وعليّ واجباً يحسن بي أداؤه وأنا مطمئن إلى سلامة الإجراءات المتخذة، وصحة التدابير الكفيلة بتحقيق شرط النزاهة؛ وفوق ذلك كله عدم التساوق مع المقاطعين، وبالتالي التحوط إزاء إمكانية احتساب صوتي ضمن أصوات من راهنوا علناً على انخفاض نسبة المشاركين وفشل العملية من أساسها، وبالتالي جر البلاد والعباد إلى اللامكان ذاته.

وبالفعل، فقد أتت نتائج انتخابات مجلس النواب الجديد ليست عند مستوى التوقعات لدى المتفائلين فقط، بل وأفضل منها بكثير، سواء لجهة تحقيق شرط النزاهة المصادق عليه من جانب هيئات الرقابة المختلفة ووسائل الإعلام، أو لجهة ارتفاع نسبة المشاركة بدرجة أعلى مما كانت عليه في الجولات الانتخابية السابقة، رغم كل الاحتجاجات الصاخبة ودعوات المقاطعة التي لم تتسع على هذا النحو في أي من الانتخابات السابقة أيضا.

وهكذا، فقد أتت مخرجات هذه الجولة، بكل مفرداتها التفصيلية، لتشكيل مرحلة تأسيسية لحياة برلمانية واعدة، يمكن البناء عليها وتحسين قواعدها بصورة متراكمة في الجولات المقبلة.

إذ بات لدينا الآن ما يمكن وصفه بانتخابات مرجعية، أو قل جملة من المعايير التي يمكن قياس أي جولة مقبلة على أساسها، الأمر الذي يستحيل معه القبول بأي نتائج انتخابية مقبلة إذا ما افتقدت أياً من المبادئ التي حكمت سير عمل هذه الدورة التاريخية بحق.فقد أصبح الآن، لدى المجتمع والدولة والرأي العام والأحزاب والقوى المدنية وغيرها، تجربة انتخابية نظيفة، ترقى إلى المعايير الدولية المعمول بها في أرقى الديمقراطيات الحديثة في العالم الثالث.

وصار بين أيدي كل هؤلاء الشركاء حصيلة طيبة لا يمكن التفريط بها تحت كل الظروف المحتملة، الأمر الذي وضع مدماكاً متيناً لما نسميه مرحلة تأسيسية غير قابلة للارتداد ولا للإسقاط من الذاكرة الوطنية.وهكذا، استحق يوم الانتخابات لقب "الأربعاء الكبير" الذي جازفنا بإطلاقه على هذه الدورة قبل يوم واحد من إجرائها، وتحقق الرهان الذي عقدناه على صحة الخيار الشعبي عندما يتم تأمين الحد الأدنى من متطلبات النظافة  من المال الأسود، ناهيك عن عدم التدخل، وضمان حرية الاختيار بدون ضغوط جانبية أو مؤثرات.

وهي متطلبات بدت متوفرة على نحو كاف عشية هذه الانتخابات، لدى كل من له عين ترى وأذن تسمع دوي التحولات الكبرى في لحظة زمنية ما.وليس من شك في أن أكبر الفائزين في هذه الجولة الانتخابية المشرّفة لكل الأطراف المنخرطة فيها، كانت الدولة الأردنية التي أثبتت أنها دولة راسخة، وذات مؤسسات كفؤة، وذهنية متفتحة على قيم هذا العصر، وإرادة جادة في الاستجابة لضرورات الإصلاح والتطور التدريجي، والأخذ بمقتضيات الربيع العربي، وذلك وسط بيئة إقليمية مضطربة، يبدو فيها الأردن كواحة أمان وقوة استقرار فريدة ومدهشة بنجاحاتها واعتدالها وقدراتها على درء ما يحيق بها من أخطار.

ولن يضير هذه الانتخابات التأسيسية الفارقة في الحياة السياسية، والغاصة بمظاهر إيجابية مفاجئة عديدة، أن يتم رجمها بالتشكيك من جانب من خسروا رهاناتهم العدمية على إفشال هذه الانتخابات، والتقولات ممن باتوا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بعيدين عن فهم كل ما جرى من متغيرات في بنية المجتمع، غرباء عن مزاج عام تبدل كثيراً منذ أن شاهد الناس أقران هؤلاء في بلدان الربيع العربي يضربون خبط عشواء، وينقلبون على وعودهم الكثيرة، وتعهداتهم المجانية.

الغد