المرحلة الماضية ومخلفاتها
بعد انهيار الدولة العثمانية جاءت الدول الاستعمارية لترث تركة الرجل المريض، وتقاسمت العالم العربي بعد أن رسمت حدوده بطريقة ماكرة، وأقدمت على تمزيقه إرباً وأشلاءً، متنازعة ومتناثرة، لا يجمع بينها سوى رابطة هزيلة واهنة أوهن من بيت العنكبوت، سمّوها الجامعة العربية، ونشأ من خلالها نظام عربي بائس وضعيف ومتخلف، عمل على تكريس الفقر والذل والتبعية، وغرق في وحل الفساد والاستبداد والقمع المصحوب بالجعجعة والشعارات الكبيرة.
في ظل هذه المرحلة المظلمة من عمر الأمة المنكوبة، نشأت ثقافة سياسيّة غريبة تقوم على معنى الانسلاخ والتنكر لحضارة الأمة وهويتها وترعرعت التيارات الفكرية الوافدة من كل حدب وصوب وانقسم العرب عربين، عرب الغرب وعرب الشرق، على طريقة الغساسنة والمناذرة، واتفقوا على محاربة أنفسهم وإضعاف ذواتهم، وتقاسموا خطاب التخوين والتبعية والعمالة للآخر من جهة، وخطاب التمجيد والبطولة والمدح المفرط للذات من جهة أخرى.
في هذه البيئة السقيمة ولد المشروع الصهيوني وترعرع ونما وكبر وتعاظم واستطاع إلحاق الهزيمة بالنظام العربي كلّه، هزيمة نكراء ومذلة، تدعو إلى الشعور بالخزي والمهانة، وبدلاً من أن تشكّل هذه الهزيمة نقطة تحول في تاريخ الشعوب العربية تؤدي إلى مغادرة هذه الأنظمة الهشة التي فرطت بالإنسان والأرض والعرض والكرامة، حدث النقيض تماماً، فقد أعادت هذه الأنظمة انتاج نفسها، واستمرت بالسياسة ذاتها التي تقوم على تغييب الشعوب وقهرها، ونهب مقدراتها، وغرقت في وحل الفساد، وأمعنت في زيادة مساحات الفقر والبؤس والتخلف وعقم الانتاج، وضحالة العلم وانحدار الثقافة، وامتهنت خطاب ثورجي يقطر طهراً وعفة، ويرمي كل مخالف لها بأبشع الأوصاف وأقذع التهم، التي لا تقل عن مستوى الخيانة والتعامل مع العدو والتبعية للمستعمر بالإضافة إلى الرجعية والظلاميّة والتخلف من أجل الإمعان في التشبث في كرسي الحكم وإبعاد خطر المنافسة.
انهار الاتحاد السوفياتي وانهارت المنظومة الاشتراكية، وبدأ نصف العالم الشرقي مرحلة تحول كبيرة وجذرية عميقة، واقتحمت معظم شعوب العالم غمار النهوض والتقدم وبدأت لديها معركة بناء الذات سواء في أوروبا الشرقية، أو دول شرق آسيا، ودول أمريكا اللاتينية، وأصبحت شعوب العالم تتنافس في صناعة التقدم والإنجاز الحضاري وخوض معركة التنمية الشاملة، ولمعت نجوم كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة في سماء آسيا، كما لمعت البرازيل وفنزويلا وبولونيا في سماء أمريكا الجنوبية ودول أخرى وشعوب عديدة، إلا الشعوب العربية، بقيت في ذيل القافلة خاضعة لأنظمة متسلطة تتوارث القهر والنمط الإقطاعي في الحكم، وبقيت غارقة في خطاب التضليل والمخادعة لشعوبها، وتسير بها من هزيمة إلى هزيمة، ومن ضعف إلى ضعف، ومن قهر إلى قهر ومن بؤس إلى بؤس أشد.
عندما حاولت الشعوب العربية إدراك الحقيقة، وبدأت الململة والمواجهة مع المتسلطين والطغاة، وجدت أن المعركة كبيرة ومعقدة، لأن الخصم ليس مقتصراً على الأنظمة الباطشة وإنما وجدت أن المعركة الأكثر صعوبة مع مخلفات الأنظمة ومخلفات المرحلة ونواتجها من أشخاص وأفكار وثقافة وخطاب وشعراء وهجائين ومنظومات فساد نشأت وترعرعت على حواف أنظمة الهزيمة والتخلف، تبيع الوهم وتكرر الخطاب المقيت نفسه، وتبرر القمع والظلم ولا تقيم وزناً للكرامة الآدمية ولا لحق الإنسان في الحياة الحرة، ولا لحقه في الاختيار ولا لحقه في العيش الكريم.
مخلفات الأنظمة أشد حماساً من الأنظمة نفسها، وأكثر قدرة على توزيع الاتهامات، وأعظم جرأة في التجريم وأبلغ في خطاب التخوين وأشد فظاظة في مواجهة المخالفين وأطول نفساً في التباكي على مرحلة الهزائم وتبرير منهج الإذلال والحكم المهين.
وفي الختام لن تنتصر الشعوب العربية إلا إذا استطاعت مغادرة المرحلة السابقة ومغادرة مخلفاتها.
العرب اليوم