القطايف لا تسبب السكري
"رمضان جانا". ها قد عاد متقدِّما عشرة أيام عن موعده في السنة الماضية، فيقتربُ أكثر من "عز الصيف"؛ ذلك الموعد الذي شهدناه صغارا جدا قبل عشرين عاما وأكثر، حين كان الأطفالُ يستعجلونَ الإيمانَ، ويتمرَّنون تسعة وعشرين يوما حتى صلاة الظهر..، لصيام يوم الوقفة كاملا إنْ تعثرت رؤية الهلال!
و"العيال كبرت أوي" الآن، تفرحُ لرؤيته وتستقبله على المحطات التلفزيونية، وهي توحِّدُ الترحيبَ بقدومه في المشهد المسرحي الخالد لأربعة أشقاء يرتدون الأبيض، ويغنون بانضباط شديد "..وفرحنا بُهْ بعد غيابُهْ"، ويفرحونَ كذلك لرؤيته، ويودِّعونَ رمضانَ على أمل أن يطولَ العمر لصيامه مرَّة أخرى في الشتاء!
يقولُ الشيخُ في الإذاعة: "مشقة الصيام في الحرِّ تضاعفُ أجرَ الصائم"، ويهزُّ الركابُ في حافلة "كوستر" رؤوسهم مؤكدين، إلا طفلا يسألُ أباه، في العاشرة صباحا، وقد بدا عليه الإنهاكُ: "كم باقي لأذان الظهر؟"!
ويضربُ مدفعه الخاص قبل الواحدة ظهرا، ويتناولُ "إفطاره المتقشف" قبل أنْ يخرجُ إلى الشارع، ليُداري لسانه الذي لم يعد أبيضَ، ويحثُّ جلدة إصبعه الأوسط، أمام الأقران، لأن تقفَ على هُزالٍ حتى موعد "الإفطار الدسم"!
ينزلُ الركاب والشيخُ يتحدَّثُ بإسهاب عن الاقتصاد في شهر رمضان، مستندا إلى معانيه في الشعور بالفقراء..، يذهبونَ إلى عدَّة اتجاهات: مفاقمة الازدحام في المؤسسة الاستهلاكية المدنية (خصوصا عند رفوف قمر الدين، ومعلبات البقوليات، وثلاجات الدجاج المُجمَّد)، المثابرة على الانتشار العشوائي والكثيف عند بسطات الخضار (خصوصا تلك التي ارتفعَ سعرها بشكل غير منطقي)، والانتظام في طابور شاق (لتزجية الوقت الصعب من النهار) أمام "صاج" القطايف الملتزم بتسعيرة التسعين قرشا!
..هكذا تكتملُ مائدتا الإفطار والسحور، وأصناف الحلوى أثناء متابعة مسلسل يحظى بأغلبية خمسة أفراد من الأسرة على الأقل..، وكل ما يلزم "الوحام" الطارئ أثناء التقليب من محطة إلى أخرى!
"رمضان جانا"، وكان من الضروري أنْ يأتي الآن، ليُصبحَ كلُّ شيء قابلا للحلِّ؛ فالموجة الحارَّة اختبار للتقوى والقدرة على تحمل العطش، والأزمة المرورية سببها سعيُ الناس في الأرض لاستكمال عبادتهم.. بالعمل، خلافات الجارات الصباحية، المشاجرة المرتقبة بين عريف الصف العاشر (أ) و"أزعر" العاشر (ب)، مكائد الزملاء، حنق الزوج على قيمة فاتورتي الهاتف الخلوي والأرضي، الخلاف الأزلي بين السائق و"الكنترول"، والمجادلة العبثية على قيمة مخالفة المرور مع رقيب السير..، كلها تبردُ بمجرَّد أن يُبادرَ أحد أطراف الصراع إلى القول: "اللهم إني صائم"!
جاء في وقته ليُعطي الناس ردعا نفسيا يساعد على فهم آلية تسعير المحروقات الشهرية، ومبرِّرات الضرائب، وبقاء ارتفاع الأسعار رغم انخفاضها من المصدر، ودخولُ معدلات الفقر والبطالة خانة الأرقام المركبة..؛ إذ يختمُ مواطنٌ تذمره الصاخب، بصوت دامع أنَّ "رمضان كريم"، فيُجيبُ مارٌّ تجاهلَ عدَّ الباقي من ورقة نقدية من فئة العشرين دينارا: "الله أكرم".
و"رمضان أحلى"؛ والسمنة ليست صلبة تماما، ويمكنُ أن تذوبَ في غرَّة شوَّال (عند العودة إلى نظام الصنف الواحد على الغداء) والقطايف حلو موسمي للمعدة، وثلاث حبات يوميا بأنواعها المعروفة، تغيِّرُ طعم الدم المسموم بأخبار الموت السريع أو البطيء..، ولا تسبِّبُ له السكري!
"رمضان جانا" في الصيف ولم يخلف الميعاد، وسيأتي عشرون رمضان قبل أنْ يعود في "عز الصيف". ولن يتغيَّر شيء؛ فأي رمضان سيكونُ وراءه العيد!