القراءة الذكوريّة للنصّ

القراءة الذكوريّة للنصّ
الرابط المختصر

 

يتخذ هذا الفعل أشكالاً عدّة منها تلقّي النصوص الأدبيّة للنساء، ومنها سيرة الأفراد في علاقتهم مع العالم. وينتج هذا الفعل عن نقص في التجربة الإنسانيّة، أو عدم الاستعداد لخوضها كاملة لاعتقاد واع أو غير واع بكفاية القوّة عبر التاريخ. الرجال هم الذين يجبرون النساء على أن يصيروا نسويّات، وللأخيرات أن يخترن نسويّتهنّ وفاقاً للوعي والثقافة، فهي عبارة عن  مستويات في الفكر والممارسة.

 

إنّ استغلاق فهم النصّ النسويّ على آليّة التلقّي الذكوريّة، أي على الرجال أو النساء اللواتي تربّين على قيم القراءة الذكوريّة، مثله مثل امتناع جماليّات أيّ آخر على الفهم، الآخر الذي ينتمي إلى هويّة أخرى، لغة أو جغرافيا أو إثنيّة أو تاريخ، لكنّ هذا الامتناع مع  الآخريّة النسوية يصير أقسى، بسبب التشارك في كلّ من الحاضنة الاجتماعيّة والمجال الحيويّ. يعود استغلاق الفهم إلى تأثير النمط حيث اعتادت معظم الأنساق على أن تكون الرؤية الذكوريّة مرجعاً، وهذا ينسحب على تفاصيل الحياة اليوميّة مثلما يقاس على التعامل مع النصوص، تلك الذكورة تصنع  قارئا ناقصاً، و ناقداً ناقصاً، و باحثاً ناقصاً، مؤيّداً بالوهم الرومانسيّ بحريّة الذكورة.

 

إنّ التجربة الغنوصيّة التاريخيّة للمرأة أكبر من أن تستوعبها المجتمعات بعامّة، لقد عمل ضدّها كلّ من التاريخ والطبيعة، والآلهة منذ قديم الزمان، وهذا أحد عوامل جبروتها،سواء أَوعت ذلك أم لم تعيه، وهي إن لم تكن قادرة على تنظيم مكتسبات هذه التجربة الغنوصيّة أو ضبطها، ستُغرق تجربتها الشخصيّة، فتنقلها إلى عوالم المواجهات الفجّة التي توسم بالتحرّر المتجاوز أو الاكتئاب، والانتحار، أو العزلة، و في الأدب ستذهب نحو ما يُسمّى بالكتابة العاطفيّة، التي تفتقد الترابط المنطقيّ.

 

لقد عبّرت كارول كريست عمّا أسمّيه أنا، التجربة الغنوصيّة التاريخيّة للنساء، بعبارتها السعي الروحي لدى النساء في مقابل السعي الاجتماعيّ، تقول: "إنّ قوى الوجود التي توجّه سعي النساء وتوجد الأرضيّة له، تُفهم كأحسن ما يكون باعتبارها قدرات أو تيّارات من الطاقة، باستخدام دوريس ليسينج، وهي القوى التي تعمل في كلّ العمليّات الطبيعيّة والاجتماعيّة. وهذه القدرات هي طاقات الحياة والموت والتوالد، والوجود واللاّوجود والتحوّل، وتكون أوضح ما تكون في الطبيعة، لكنّها تعمل أيضاً في العالم الاجتماعيّ.".

 

لعلّ هذه التجربة الغنوصيّة جعلت بعض الناقدات النسويّات يصنّفن مجموعة من نصوص النساء على أنّها نصوص مقدّسة، من حيث اتصالها بالكوني البعيد، والأرضيّ المغيّب، والمستغلق على الفهم، أو اللاّ مفكّر فيه، مثل ناومي جولدنبرج إذ تقول: "إنّه يمكن أن يأتي وقت يُنظر فيه إلى الأدب والشعر اللذين كتبتهما المرأة على أنّهما نصوص مقدّسة عن إدراك روحيّ جديد"، وتتابع  كريست : "إنّ هذه الجملة تبدو غريبة لهؤلاء الذين درسوا كتابة النساء من منظورات مختلفة، أو لهؤلاء الذين ركّزت دراستهم للنصوص المقدّسة على تمجيد هذه النصوص".

 

لم تسقط الأنماط القديمة في القراءة إلى الآن، رغم الادعاءات كلّها، وربّما نجا منهاالرجال الذين عاشوا حروباً طاحنة،أو الشعراء الحقيقيّون، لأنّ القراءة تحتاج إلى استسلام أوّليّ للجديد، لا إلى البحث عمّا نعرف ونألف. تحتاج إلى البحث عن طريق جديدة وأدوات جديدة، تضاف إلى أدواتنا القديمة، وربّما تنسفها، ولعلّ الباحثين يعرفون ذلك  أكثر من القرّاء العاديّين، فأوّل ما يدرسونه في المنهجيّة، هو احترام النصّ، والانطلاق منه، وعدم الاستهجان، والاستعجال، للوصول إلى المفاتيح، ذلك أنّ جماليّات النصوص لا تمنح نفسها بسهولة، وهذا لا يعني الكثير من الوقت أو الجهد المضني، بل يعني الاستعداد للمواجهة، مواجهة ما نخاف من أن يغيّر قناعاتنا، ويجعلنا نندم، ونعترف بأخطائنا.

 

هكذا استطاع العالم الذكيّ تلقّي نصوص ألفريدا يلينك في "عازفة البيانو"،  وأرونداتي روي في "إله الأشياء الصغيرة"، وسوزانا تامار في "اذهب حيث يقودك قلبك"، وفروغ فرخ زاد في "ميلاد جديد"، وأشكّ كثيراً في قدرة عالمنا العربيّ، إلى الآن، على تلقّي الجماليّات الأصيلة في نصوص كاتبات مثل مي زيادة في "رجوع الموجة"، ورضوى عاشور في "ثلاثيّة غرناطة"، وسلوى بكر في "أدماتيوس الألماسي"، وسميحة خريس في "بابنوس"، وإنعام كجة جي في "طشّاري"... كاتبات استطعن أن يحقّقن معادلة السرديّة من جهة، والغنوصيّة النسويّة من جهة أخرى. وما تزال الطاقة الروحيّة لدى النساء تبحث عن حاضنة اجتماعيّة توازيها أصالة وغنى.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.