العبور مع شكسبير

العبور مع شكسبير
الرابط المختصر

 

 

بمناسبة مرور أربعمئة سنة على وفاة شكسبير، أعدت قراءة السونيتات. تلك البدعة الشعريّة الذي طوّرها شكسبير عن الإيطاليّ بترارك، ويبلغ عددها 145 سونيتة، نظمت بين 1593 و 1596، ونشرت كاملة في العام 1609. ولا شكّ في أنّ معظم المطّلعين عليها يعرفون أنّها نظمت في علاقة شغف ثلاثيّة الأقطاب،  بين شكسبير الشخصيّة المعنّاة بالحبّ، والصديق الرجل الذي تدخل صداقته في علاقة ملتبسة مع شكسبير، ويخال النقّاد أنّه اللورد وليم هربرت، والسيّدة ذات الجمال الأسود المغاير للنسق، حيث يمكننا تأويل هذا السطر: "سيشرق حبيبي نيّراً مدى الدهر في المداد الأسود"، بخلود الكتابة، مع جماليّاتاللون المختلف، أو الخارج على النمط:

"أما حسبك تعذيبي أنا/ فتجعلين من صديقي الحلو عبداً للعبوديّة"! تبدو في هذا السطر محاكاة ثقافة الصيدلقصّة فعل الظبي بالأسد.

"وإن يكن الشعر أسلاكاً فالأسلاك السوداء في رأسها تنمو/ ولقد رأيت الورود الدمشقيّة، حمرها وبيضها، غير أنّي لا أرى وروداً كتلك في خدّيها.".

 

يقال إنّ هذه السيّدة شخصيّة في البلاط، أو محظيّة، أو زوجة لرجل خطير، وكلّها روايات قابلة للتشكيك. قد تصنع هذه العلاقة الثلاثيّة تناصّات مع غزليّات أبي نواس بالمذكّر والمؤنّث، مع خلافات نفسيّة وثقافيّة واضحة طبعاً، تعود إلى تباين الأعراف الثقافيّة بين النسقين الاجتماعيّين، لكنّ العلاقات الإنسانيّة ملتبسة بعامّة، والأدب يطرح هذا الالتباس، ويلامس نواة العقدة، وقد يحلّلها،  كما فعل شكسبير في نصوصه كلّها تقريباً: الحبّ مع الرغبة في التملك، والخوف مع المتعة، والسعادة التي تشكّل (العجيب)، والشكّ الذي يؤدي إلى الجريمة...إذ يذهب دائماً إلى المشاعر المتطرّفة، لا يخاف أبداً. ولابدّ من أنّه امتلك وقتاً للإصغاء إلى نفسه نتيجة التخفّي والغياب الذي فرضه الهرب المتواصل من العسف السياسيّ، وتعلّمه على يد كريستوفر مارلو الخبير بحياة الشوارع، وتماهيه معه، لدرجة يقال فيها أإنّهما شخص واحد، وانفصاله عنه بسبب التمايز الثقافيّ والاجتماعيّ، وأيضاً كلّها روايات، أنتجها تاريخ الأدب.

 

ما أبحث عنه في معظم القراءات هو القدرة الكامنة في النصّ على العبور، عبور التاريخ والجغرافيا، والوعي أحياناً، وذلك جانب مهمّ من قيمة الفنّ، التي تمكّن المتلقّين من الاستفادة من النصّ في فعل (المواساة)، مواساة الذات البشريّة في هزائمها المتلاحقة، وتلك هي القراءة الاستعماليّة للنصّ التي يحكي عنها إدوارد سعيد.

 

هذه العلاقة في قيمتها الصفريّة، أي من دون أن نحوّلها إلى نصّ استعماليّ لا بدّ من أن تكون صادقة، لكنّها تكسب قيمة مضافة حينما تساعدنا في استعمالها، تنقذنا أحياناً، فكثير من الناس يقرأون  ليتعلّموا من الشخصيّة، ولا سيّما حين لا تسعفهم التجربة. ما يفعله النصّ أيضاً في علاقته الأولى مع صاحبه قبل أن ينتقل إلى المتلقّي هو شيء في غاية الذاتيّة، إنّه تخليد العلاقات، وربّما قد تكون العلاقة مع طاولة، وقد تكون مع فكرة الانتحار! لكنّها أيّاً كانت، ستمنح الجميع إحساساً خالداً بالجمال والفناء واليباب على حدّ سواء، ومن عند شكسبير ستنقل جماليّات غدر الحبيب، وجماليّات أن تكون ضحيّة مزدوجة، بحيث  يكفيك التغنّي بالهزيمة والاستسلام، لأنّك تنتج أدباً، يبقى تميمة ضدّ الزوال، حين تزول العروش ويذوي الجمال، هكذا تخلد الكلمات والأفكار، إنّها ليست مجرّد حبر على ورق:

"لا الرخام ولا نصب الأمراء مطليّة بالعسجد/ ستعمِّر أكثر من هذا الشعر المتين/ بل سيبقى ذكرك ساطعاً في هذي الكلمات/ أكثر من حجر يتّسخ، ومَرُّ الزمان الأغبر يلوّثه/ وحين تحطّم التماثيلَ حروب ضروس، وتجتثّ يد النزاع مباني الحجارة من أصولها، فلن يمزّق السيف، لا ولن تحرق نيران الوغى/ سجلّ ذكراك الذي سيحيا أبداً...".

 

وخلاصة القول تتركّز في جماليّات الحكمة، ولا نقصد الوعظ، بل نقصد ذلك اليقين الخالد، والمؤلم، والذي يلخّصه شكسبير في سطر، في حين نمارسه في حروب ودماء وحرمان، يقول:

تعلّمت من الدمار أن أتأمّل فأقول/ إنّ الزمن سيأتي ويأخذ منّي حبيبي...

 

السونيتات بترجمة جبرا إبراهيم جبرا.

 

د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.