الخضوع؛ تأويلات شارلي إبدو

الخضوع؛ تأويلات شارلي إبدو
الرابط المختصر

يؤجل أشهر كتّاب فرنسا ميشال ويلبيك ترويج روايته الأخيرة "الخضوع"، التي كانت موضوع غلاف مجلة شارلي إبدو صبيحة يوم الاعتداء الإرهابي عليها، في الوقت الذي تنفّذ السلطات السعودية حكْمها بخمسين جلدة على مواطنها الصحافي رائف بدوي ستُكرر عشرين مرة متتالية، ضمن ارتهان مبرمجٍ في كلا الحادثتين إلى عقد ذنبٍ أو انحيازاتٍ مسبقة.

رائف بدوي يُحاكم بتهمة الإساءة إلى "إسلام" يُفصّل على مقاس مؤسسةٍ دينيةٍ تُحرّم أي نقاش يطال أجهزتها وأذرعها، فيُغلق موقعه الإلكتروني لانتقاده هيئة الأمر بالمعروف، ويُسجن عشر سنوات مع الغرامة والجلد.

عقوبةٌ لم تقررها داعش بحق "مارقٍ" في مناطق تحتلها، إنما تنفذها جهةٌ لا يجرؤ رجل دين واحد في الوطن العربي معارضتها في هذه المسألة وغيرها، وهي تمارس نفوذها خارج السعودية، أيضاً، إذ تنتشر مدارسها ومراكزها ودعاتها في أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا وآسيا، وبذلك نكون إزاء سلطة تمارس قمعها باسم الإسلام وتتحالف مع أنظمة عربية وغربية بذريعة محاربة الإرهاب.

"قمع" يسمح التعرض لـ"جريمة باريس" دفاعاً عن حرية الرأي والتعبير، لكنه يمنع تداول قضية بدوي، الذي تضامن معه كتّاب وصحافيون يغضون النظر عن تشدد وتطرّف تمارسه دول تخاصم الوهابية، لنكون إزاء عقلٍ واحد يحتكر الحقيقة والسلطة، ويستند إلى الغيب، وإن توزّع على خشبة السياسة في محورين أو ثلاثة محاور.

يُفرض علينا تكفير الآخر سواء كان مسلماً أو غربياً لأنه مسّ المقدس التي تستخدمه السلطة لدينا حماية لها وإدامة تقاسم مصالحها مع حكومات الغرب نفسه، أو نقوم بجلد الذات لأن منفّذ عمل إرهابي كان مسلماً مما يسيء إلى صورتنا. وفي الحالتين يجري التضليل في تحديد من "نحن"، وفي توضيح من "هم"، ونجبر فقط على الاختيار بين "نحن" تدل على مسلمين مظلومين أو متخلفين، وبين "هم" المتآمرين على الإسلام أو المتقدمين علمياً وتكنولوجياً، وتختفي كل الأوصاف والمحددات الأخرى التي لا يمكننا فهم الواقع من دونها.

وباللعب على التعمية ذاتها؛ ينشر الروائي الفرنسي ميشال ويلبيك روايته الأخيرة "الخضوع"، ويخيّر مواطنيه بين مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف وبين محمد بن عباس مرشح حزب إسلامي (متخيل وغير مؤسس حتى يومنا هذا) في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2022.

150 ألف نسخة من الطبعة الأولى للرواية، التي تحذر من "أسلمة" فرنسا، ورضوخ أبنائها للواقع الجديد مثلما تعاونوا سابقاً مع المحتل النازي في أثناء الحرب العالمية الثانية، مثيرة ضجةً إعلاميةً كبرى إلى جوار حادثة "ايبدو"، وربما مستفيدة منها.

تتجاهل نخبٌ الدوافع وراء هذه النبوءة، فأحزاب اليمين في أوروبا مجتمعةً تتغذى على مقولة فشل الاتحاد الأوروبي والأزمة الاقتصادية التي تخنق بلادهم، ولضمان تمددها في مجتمعاتها تلجأ إلى خطاب عنصري ضد المهاجرين، المسلمين منهم تحديداً، الذي يسكن أغلبهم العشوائيات والأحياء الفقيرة؛ وعليه تكون عوامل اقتصاديةٌ اجتماعيةٌ سبباً رئيساً لنهوض اليمين وانضمام بعض مسلمي أوروبا إلى القاعدة أو حتى داعش.

ولو سلمّنا بصحة مخاوف ويلبيك وكتّاب غربيين عديدين، فهذا يعني سقوط كل قيم النهضة الأوروبية والتنوير، والثورة الفرنسية، ونموذج دولة الرفاه الاجتماعي، وعالمية الخطاب الثقافي الإنسانوي، مقابل انتصار اليمين و"الإسلاميين"، ما يعدّ فجيعة يتحمل مسؤوليتها عقلٌ أووربي لم تفترق مصالحه عن ذلك العقل الذي يُحاكم بدوي وكل فردٍ يؤمن بحرية التفكير في بلادنا.

إنه "الخضوع"! ليس امتثالاً لمنطق "هل تدين الإرهاب أم تؤيده؟"، إنما هو الاستسلام لسلطة واحدة تسعى إلى تحويلنا، غرباً وشرقاً، إلى عبيد محكومين بتأويلاتهم المقررة، سلفاً، مجرزة شارلي إبدو وأحكامهم الجاهزة عنا وعن العالم بأسره!

 

  • محمود منير: كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.

 

 

أضف تعليقك