الحراك الأردني والخلل المزدوج
مظاهر التخريب والحرق والتدمير التي رافقت حركة الاحتجاج الشعبية الغاضبة التي اجتاحت المملكة طولاً وعرضاً على إثر قرار رفع الأسعار، كانت نتيجة خطأ مزدوج وعميق ومتأصل لدى بعض حركات المعارضة والطيف السياسي والشعبي من جهة، ولدى النظام والجانب الرسمي من الجهة الأخرى، ويعبّر عن ثقافة سياسية غير ناضجة لدى الأطراف المختلفة، ويعبّر عن خلل كبير يحتاج إلى معالجة جماعية مشتركة.
يتمثل الخلل لدى بعض الأطياف السياسية المعارضة وبعض المكونات الاجتماعية والشعبية في مفهوم الانتماء الحقيقي للوطن والدولة، فهم لا يفرّقون على الأغلب بين الحكومة والدولة، أو بين صاحب السلطة والقرار من جانب، وبين الوطن ومؤسساته من جانبٍ آخر، ويصل مستوى الجهل عند بعضهم إلى تلك الدرجة التي تدفعه إلى أنماط سلوكية غريبة وشاذة، مثل ما حدث من حرق المؤسسات الاستهلاكية المدنية والعسكرية، أو حرق البلديات أو الاعتداء على مؤسسة الدفاع المدني، أو تحطيم الواجهات الزجاجية للمحال التجارية، فهم يتوهمون أنّ هذه المؤسسات وهذه المحال هي ملك لرئيس الحكومة، أو مقتنيات لصاحب القرار.
وهذا يعود لحس بدائي بالانتقام الأهوج والعشوائي لدى بعض الفئات التي تعاني من التهميش والفقر والفاقة، مثل الأطفال الذين يعمدون إلى تحطيم أدوات المنزل وتخريب الألعاب من قبيل إغاظة الوالدين، وبعضهم الآخر يعود لنقص في الانتماء وخلل تربوي ثقافي عام لدى فئات أخرى لم يتمّ معالجته بطريقة منهجية صحيحة، لا في المدارس ولا في الجامعات ولا في المجتمع ومؤسساته المدنية، وربما هناك أيضاً فئة قليلة خارجة على القانون ومن أصحاب الأسبقيات الذين يستغلون ظروف الفوضى للسطو على البنوك وتنفيذ بعض أعمال السرقة، وينفذون مآربهم من خلال المشاركة في المظاهرات وتجمعات المحتجين.
أمّا الوجه الآخر للخلل وهو لا يقل أهميّة عن الوجه السابق، وربما يفوقه بالأهميّة والمسؤولية ذلك الذي يتعلق بالطرف المقابل، إذ إنّ الحكومات ورجال الدولة وأصحاب السلطة والقرار يعمدون إلى إرساء ثقافة مختلة لمعاني الولاء والانتماء، إذ إنّهم يختصرون الوطن بأشخاصهم وذواتهم، ويعتبرون الولاء والانتماء الوطني هو الولاء والانتماء للأشخاص، ويظهر ذلك بوضوح في بعض المناهج التربوية ، إذ تقل جرعة حب الأوطان وحب الأرض والانتماء للأمّة لحساب تمجيد الأشخاص.
نحن أمام مشهد حزين يدعو إلى البؤس والكآبة، ويعبّر عن الحاجة الملحّة والضرورة الأشد إلى إحداث ثورة ثقافية تعيد بناء العقلية العربية، وتعيد بناء الإنسان العربي، ما يحتم التوافق على المعنى الشامل للإصلاح الذي لا يقتصر على جانب واحد، ونظرة أحادية مجتزأة للمشهد برمّته.
يجب ترسيخ ثقافة سياسية سليمة تقوم على ركن أساسي يتمثل بأنّ الشعب بمجموعه هو المالك للدولة والمؤسسات والمالك الحقيقي للوطن، وهو صاحب السيادة على الأرض وهو صاحب السلطة الحقيقية، وهو الذي يملك حق اختيار الحكومات وحق مراقبتها ومحاسبتها، وحق استبدالها؛ وفقاً لتشريعات دستورية وقانونية تنظم هذه العملية بمنتهى الوضوح.
يجب التوقف عن سياسات النفاق والتزلف وكيل المديح وعبارات التبجيل والتفخيم، كما يجب التوقف عن استخدام أسلوب الخطب والكلام في التعبير عن الولاء والانتماء، وأن نرسي ثقافة جديدة في هذا المجال تتلخص بأنّ الولاء والانتماء الأصيل يكون بالعمل والخدمة، والحرص على المال العام، ومحاربة الفساد، ومحاربة كل أساليب النهب والسطو على مقدرات الأمّة، وأنّ التعبير عن أسمى آيات الولاء والانتماء يكون بإتقان الدور، والقيام بالواجب الوظيفي بأمانة، ويكون بالحرص على العدالة وإرساء قواعد المساواة؛ كلٌ من خلال موقعه ومن خلال تحمّله للمسؤولية .
العرب اليوم