الجامعة الأميركيّة في مادبا تخرّج الفوج الأوّل من طلبتها
قرّرت أن آخذ إجازة من الكتابة، فأنسحب قدر ما أستطيع من هذا العالم المضمّخ برائحة الدم، ذلك أنّ العنف في كلّ مكان، والناس يتشاجرون في الشارع، وفي العمل، وعلى المنابر الثقافيّة، وحتّى المشاعر البالغة في قدسيّتها لحقتها الدماء، وصارت عرضة للاصطفاف الطائفيّ!
أغلقت هاتفي، ووسائل تواصلي الاجتماعيّ، ورحت أراقب القمر الورديّ العظيم الذي يشغل العالم منذ أيّام، واستعرت لذلك إيمان العجائز، ذلك الإيمان الذي وقر في القلوب قبل أن تتاح للبشر الكشوفات الفلكيّة التي هتكت حجب الأسرار، التي أنبأت أخيراً بأنّ كوكب المريخ يحتوي على الماء، ممّا يجعله صالحاً لحياة البشر، ونحن الآن نريد صوتاً يصرخ بأن اتركوا المريخ بحاله، بعيداً عن العنف.
الاستغراق في كتاب منتقى بعناية فائقة، سيتمّم عمليّة انسحابي من الكتابة، لا سيّما أنّ حكاياته أخذتني إلى الرسائل المتبادلة بين السلطان سليمان القانوني، ومحظيّته خُرّم، تلك المرأة التي اخترقت التقاليد العثمانيّة المرعبة، وصارت زوجة، نقلته من جناحه الذكوريّ المعزول، ليعيش معها ومع أبنائهما في جناح أسريّ حميم. كان ذلك الباديشاه، أو الإمبراطور، أو الخليفة، الذي أخضع العالم يعاتبها مثل محبّ أصيل، بل عاشق رقيق، فيكتب: "تعاملينني برفق أحياناً، وتعذّبينني في أحيان أخرى. حبيبتي، أيّاً كانت معاملتك، فسوف أتقبّلها دائماً...أنا إن متُّ، فأنت قاتلتي أيّتها المرأة القاسية"! تردّ (خُرّم) معتذرة عن نوبة شجار أحدثتها، فترسل إليه قائلة: "أدعو الله أن يمحو الكلمات التي أبعدتك عنّي..."! إنّه دعاء مبالغ في مجازيّته، فالكلمات بعد أن تقال لا تُمحى أبداً، إلاّ إذا فعّل الله إرادته، ومحق الحرف.
شهيّ هو غزل السلاطين، وله طعم آخر! لكن هذه البهجة لن تدوم طويلاً، ففي الصفحة التالية سنجد القول الآتي: "بهذه الواقعيّة الفجّة التي ميّزت الأسلوب العثمانيّ... كتب محمّد الثاني: يتعيّن على ابني الذي يرث عرش السلطان، أيّاً كان هو، أن يقتل إخوته من أجل مصلحة الإمبراطوريّة العثمانيّة... وعلى امتداد تاريخ هذه العائلة قُتل نحو ثمانين أميراً، عادة بالشنق بخيط قوس، وذلك لتجنّب إراقة دم العثمانيّين المقدّس". ترد بعد ذلك حكايات القتل في الإمبراطوريّات البيزنطيّة والمغوليّة والأوروبيّة، بوصفها وسيلة للسيطرة العائليّة، وهكذا أهرب من دماء الحاضر، لأغوص في دماء التاريخ!
استبدلت بذلك كلّه صور منجز حقيقيّ مبهج ، إنّه حفل تخريج الفوج الأوّل من طلبة الجامعة الأميركيّة في مادبا (AUM)، والذي تمّ في الثامن عشر من الشهر الجاري، لثمانين شابّ وشابّة، أعتقد أنّنا أعددناهم جيّداً في محاولة جادّة لتغيير وجه الإقليم نحو الأفضل، وذلك تحت شعار "العلم والحكمة"، والجامعة الأميركيّة في مادبا مؤسّة من مؤسّسات التعليم العالي في الأردن، أهليّة، وكاثوليكيّة، وغير ربحيّة، وأردنيّة- أميركيّة، وقد تأسّست في العام 2005، وبدئ العمل بها عام 2011.
أرجو أن تستوقفكم مفردة (الحكمة)، التي غابت طويلاً، مثلها مثل مفردات أخرى اختبأت في المعاجم من مثل مفردة (المروءة)، وما ذلك إلاّ لأنّ دلالاتها فُقدت من ممارسات المجموعة الثقافيّة، ولم يعد أحد يهتمّ بها، فالجميع مشغول بمفرادت ذات دلالات سلطويّة مفرّقة، ونحن نستعيد (الحكمة) التي هي ضالّة المؤمن، ورأسها مخافة الله، وهي لا تُطلب إلاّ منه سبحانه، فبها أقام العالم.
عاش هؤلاء الطلبة في بيئة معرفيّة صحيحة، ومتوازنة، وتعلّموا فضلاً عن المنهجيّة والبحث، مفهوم الثقافة، وتقدير الذات، وآليّات التغيير الإيجابيّ، والنقد البنّاء.
سبق أن خرّجتُ مئات الطلبة في عشرات الأفواج، لكنْ لهذا التخريج مذاق آخر، مذاق المرّة الأولى، التي تضمّنت بصمتي الشخصيّة، فكلّ شيء كان طازجاً، ويمتلك المميّزات التي يمنحها وصف (الأوّل)، والتي تحمل معنى الريادة. لن أزيد في الكلام على خرّيجينا، لأنّهم سيثبتون اختلافهم في العائلة، ومع الشركاء، وفي مواقع العمل في أيّ مكان في العالم، فطلبتنا سيقومون بتحسين حياة من حولهم، وهاهم يبدؤون بي، إذ يثنونني عن الانسحاب، ليعيدوني إلى كتابة هذا المقال.
أهنّئهم وذويهم بنجاحهم الباهر، وأهنّئ زملائي الأعزّاء بمنجزنا، وأرجو للجميع التوفيق!
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.