التفكير الغوغائي في المعاني الجادة
جمعتني مؤخراً مناسبة ببعض الصديقات والأصدقاء، وشجَنَ الحديث إلى فروعه، فأتينا على ذكر التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بعض بلدان الخليجِ، فما كان من أحدنا إلا أن هبَّ إلى القول معتنقاً تسفيهَ التجربة الجادة، وإلقاءَ صفات الخيانة والتخوين على أولئك الذين يُنفقون الملايين على المؤتمرات الثقافية والبِنى التحتية بينما شعبُ غزة يتضوَّر من الجوع!!!! وقد ذكَّرتْني هذه الواقعة بتلك الحملات المسعورة التي كانت تقودها – وما تزال - جهاتٌ ملتبسةٌ بالعوَز الفكريّ والسلفيَّة الصحراويَّة، وغارقة في غياهب بحر الظلمات، ضدَّ الفنون والمهرجانات، وضدَّ الثقافة ما خالف منها النظرة غير الحصيفة للحياة المدججة بالخناجر والسكاكين لاغتيال أيِّ فكرة أو سلوكٍ أو شخصٍ أو فلسفةٍ تذهبُ إلى أبعد من حدود خيال مريضٍ مصاب بفوبيا الحداثة والتحديث.
ولن نستطيع أن ننسى الهجوم المرَّ الذي كان يُنظَّم ضدَّ مهرجان جرش. بل لا أستطيعُ أن أنسى المطالبات التي كانت تردني ممن يتَّصل بي بسببٍ، لأن أكتب هجومي الخاص على هذا المهرجان بالذات، بحجة إساءته إلى الدين والأخلاق (ولا أعرف حتى هذه اللحظة كيف!!)، وبحجَّة أنَّ الإنفاق ينبغي أن يتمَّ على ما هو أحقّ!! بمعنى آخر، فإنَّ الأصوات التي تعلو فجأة لتسفيه أي نجاحٍ، أو أي خطوة حقيقية باتجاه التنمية، لا تخلو من غوغائيَّة تجعل من الوطنيِّ في تضادٍّ مع التنمية، أو من حركة حريَّة النساء في تضادٍّ مع الحريَّة السياسيَّة. فالنِّضال الوطنيُّ والانتماءُ والتحرُّرُ السياسيُّ، كلُّها معانٍ عاليةٌ يتسلَّقُ عليها إما أنصافُ مؤهَّلينَ، أو ممن يُعانون من عَوَزٍ تاريخيٍّ إلى التفكير الموزون والراشد، أو أميُّونَ من حَمَلة الشهادات العليا لم يتصفَّحوا كتاباً منذ سنين، أو مصابون بإحباطٍ مزمنٍ، أو معتوهو أيدولوجيات متداعية بفعل تساقط الطلاء الذي كان يسترها ويزيِّنها، أو أصحابُ أجنداتٍ، أو إعلاميُّون وإعلاميَّات خالياتُ الوفاض وسطحيُّون يبحثون عن إثارة صحافيَّة سريعةٍ وساذجة!!!
وإذا كانَت البيَّنة والتفكيرُ الموضوعيُّ والحجَّةُ المنطقيَّةُ ليست من أدوات هذه الفئات، فإنَّ التفكير الذي يقوم على التهييج (أو الهياج) العاطفيِّ، وعلى لَيِّ المعاني أو الاستهتار بها أو تسطيحها، وعلى مقدِّماتٍ تُفضي إلى مؤخِّراتٍ أخرى، وعلى ارتفاع الصَّوت عموماً، ليكون الإقناعُ أجدى (!!!)، ليس (هذا التفكير) سوى مظهرٍ مخيفٍ من مظاهر الإخفاق المريع والخواء التامِّ في نظام التربية والتعليم، ذاك الذي في المؤسَّسة الرسميَّة، وذاك الذي في قنوات التربية الموازية (المسجد، والنادي، والإعلام التقليدي والافتراضي).
لقد سئمنا حقاً ذلك الازدحام في المشاعر التي تنتصبُ بديلاً غبيَّاً للتفكير المتأني والمُنصِف والباحثِ والمتدبِّرِ والمتفكِّر – إن جاز التعبير - ، وطلوعها اليوميَّ المحتشدَ في المنتدياتِ والملتقياتِ الفكريَّة والثقافيَّة والسياسيَّة وبرامج الإعلام المرئيِّ والمسموع، بل في البحوث والأطروحات الأكاديميَّة التي شرطُ الفوزِ بدرجاتها الحجَّةُ والمنطق والعقلانيَّة والموضوعيَّة.
لقد آن لهذه الغوغائيَّة أن تنجلي عن عقولنا ما دمنا نتأهَّبُ – إن شاء الله !!! – للأخذِ بأسبابِ النجاةِ من مصير الجَهَلة المدلهمّ في قاعِ قاعِ التخلُّفِ الحضاريِّ.