التجربة الهولندية

التجربة الهولندية
الرابط المختصر

 

تسعة أعوام ونصف العام مضت على تلك المكالمة الهاتفية المصيرية التي حملني محتواها طوعاً وتوقاً إلى منحة دراسية سخية مقدمة من الحكومة الهولندية لدراسة الماجستير، في برنامج سموم الأغذية، في جامعة فاخننجن الهولندية.

 

سنتا المنحة المقررتان امتدت سبعاً استكمالاً لدرجة الدكتوراة في علم السموم. أمضيت بعضاً منها في قاعات الدرس، والقسط الأوفر في مختبرات البحث، وما بين مقتضيات هذين المسارين تنقلت كثيراً بين جامعات هولندية عديدة، فعاينت نظامها التعليمي العالي من الداخل وكنت أحد مخرجاته.

 

النظام التعليمي العالي في هولندا منسجم حد التطابق مع ثقافة البلد الحاضنة، ومترف درجة تماهي الواقع بالنظرية. يتجلى الترف الذي تنعم به مكونات المنظومة التعليمية الهولندية في صور عدة، ولعلَّ أبرزها يكمن في التجدد والتطور الدائمين في محتوى المواد الدراسية الجامعية، انسجاماً مع روح العلم، واستجابة لواقع لا يعرف الركود والثبات.

 

تتوزع وحدات المقرر الدراسي الواحد على مجموعة من أعضاء هيئة التدريس توزيعاً يحكمه الاختصاص الدقيق لعضو هيئة التدريس وموضوع أبحاثه، ويساندهم في واجبهم التعليمي أفراد من خارج الجامعة يعملون في مؤسسات الدولة الهولندية كافةً؛ من مراكز أبحاثها، ومصانعها، ودوائرها الحكومية والأهلية، يلتقون بطلبة الدراسات العليا في مساقات دراسية مختلفة، ويقدمون محاضرات تعتمدها الجامعة بوصفها جزءاً أصيلاً من المنهاج الدراسي.

 

تتناول محاضرات الضيوف من خارج الجامعة آخر القضايا الملحة في مجال المادة موضوع الدرس، وسرداً لأمثلة حية في كيفية استخدام المعلومة النظرية في حل المشكلات العملية، وفي صناعة القرارات الكبرى.

 

تجمع قاعات الجامعات الهولندية أهل الاختصاص والمعرفة ببعضهم بعضاً، وبطلبة الدراسات العليا في لقاءات دورية، فتنتج هذه المنظومة التعليمية العصرية لغةً مشتركة وتقارباً في الرؤى والأولويات والحلول المقترحة، وتدويراً فعالاً للموارد والكفاءات البشرية، مما يخلق شكلاً فريداً من التجانس في تركيبة المجتمع. ويتيح هذا النظام التعليمي لطلبته تنقلاً ميسراً بين جامعات هولندية وأوروبية متعددة، بغرض الالتحاق في مساقات دراسية مختلفة، وتفتح مختبرات هذه الجامعات أبوابها للطلبة لتسد النقص، التي تعاني منه مختبرات جامعية أخرى، ضمن نظام تشاركي وتكاملي.

 

اليوم، وبعد مرور سنتين على تخرجي وانخراطي في سوق العمل، في شركة متخصصة بالغاز والبتروكيماويات، أخطو خطوات من سبقوني لأساهم في مراكمة رصيد مدخلات هذا النظام التعليمي؛ إذ التقي في كانون الثاني من كل عام بمجموعتين من الطلبة، الأولى مكونة من طلبة الدكتوراة في مساق تقييم المخاطر الكيميائية، في جامعة فاخننجن، حيث تتلمذت وتخرجت، وأحملهم معي في ساعة كاملة إلى عالم البتروكيميائيات، فأقدم لهم أمثلة حية للقضايا الروتينية والطارئة التي تصادفني في عملي وتستدعي تقييماً لسمية المواد البتروكيمائية المختلفة، ولا أجد غضاضة، البتة، في التعريج على بعض من إخفاقات الماضي والدروس المستفادة منها، وأستثير أدمغتهم في ساعة عمل ثانية للوقوف على دراسة حالات متنوعة، لا يتوانون فيها عن إدهاشي بقدراتهم النقدية والتحليلية، وجاهزيتهم العالية للانطلاق إلى معترك العلم والعمل.

 

وألتقي في الأسبوع نفسه بمجموعة من طلبة الماجستير في تخصصي البيولوجيا والبيئة، في جامعة أوترخت العريقة، لأقدم لهم محاضرة عن الجانب المسؤول والمستدام في قطاع الصناعات البتروكيميائية، وأستعرض معهم آخر التطورات الحاصلة في التكنولوجيا الصديقة للبيئة، والأجيال الجديدة للمنتجات البتروكيميائية ذات الخصائص السمية المحسنة، وعن جهودنا في تقليل انبعاث أكاسيد الغازات الضارة، التزاماً نحو البيئة والأجيال القادمة، وعن مساعينا الحثيية لابتكار طرق فحص مخبري متطورة تحقن دماء الفئران.

 

تلقى محاضرتي الأولى استحساناً من جمهور طلبة الدكتوراه في علم السموم، الذين يحلم أغلبهم بالعمل في قطاع الصناعات، بينما تحاصرني الاتهامات والتحفظات من أفراد جمهوري الثاني الذي يتبنى فكراً صديقاً للبيئة، ومعادياً لقطاع الصناعة عموماً، والكيماويات خصوصاً، وغالباً ما يسود الحوار أجواءٌ من الحدة والعداء، لا تلبث أن تتلاشى تدريجياً، حتى تزول تماماً في آخر المحاضرة، بعد الوقوف على أكثر القضايا إشكالية، والحصول على فرصة كافية، لا تتاح عادة، لسماع وجهة النظر الأخرى، في أجواء مهنية بعيدة عن مبالغات الإعلام، ومغالطات مضللة.

 

المزايا التي يحظى بها النظام التعليمي في هولندا، ويغدق بها على طلبته من جنسيات مختلفة، تعتمد في جزء مهم منها على توفر بنية تحتية فاعلة من الكفاءات البشرية والمادية! ولاشك لدي أيضاً بأن كثيراً من المزايا التي تتأتى عبر شراكات عدة، لا تحتاج في كثير من الأحيان إلى موارد مادية، بقدر ما تحتاجه من موارد أخلاقية، تعتمدعلى توافر رصيد كبير من النوايا الطيبية والجادة، وعلى مبادئ حية من الالتزام، والثقة المتبادلة، وثقافة المشاركة، والاستخدام الأمثل للموارد الموجودة.

 

أستحضر معكم تجربتي الخاصة هذه، وأنا أطالع إعلان المفوضية الأوروبية في بروكسل، عن تمويلٍ يقارب الثمانية مليون يورو، من أجل بناء القدرات في مجال التعليم العالي في الأردن، وهذا التمويل، بحسب الخبر المنشور، امتداد لبرنامج منح أوروبي، استفادت منه المملكة في مدة تزيد عن الاثني عشر عاماً.

 

محاولات لتصحيح المسار داخل نظام تعليمي في دولة نامية، في وقت تحذر فيه أصوات عديدة بأن مستوى التعليم العالي في الأردن، وفي هذه الفترة الزمنية المرجوة تحديداً، يمضى مسرعاً في اتجاه معاكس!

 

وسماء الحسيني خبيرة سموم في قطاع البتروكيميائيات في هولندا، وباحثة في التحركات المدنية الخلاقة التي تعمل نحو عالم أفضل.

أضف تعليقك