الاستقواء والإستجداء
كان لي صديق ذو قامة طويلة ممشوقة وأكتاف عريضة وصدر شعور وظفيرة خميلة ملتفة وعيون لامعة وحاجب سميك ولحية مهذبة وشارب مبروم وشفاه مكتنزة وصوت أجش وذو بشرة سمراء أكحل أعسر نرجسي ناري وصاحب شخصية نافذة ولسان صارم ، وله كرش مثقوب .
ذات مرة أراد هذا الصديق إقامة وليمة لشلّتنا المكونة من ستة أشخاص ، طبعا للرد على ولائم كثيرة له من باقي الشلة كنوع من بياض الوجه ، فأرادها أن تكون على شكل رحلة شوي فأذاع الخبر لذلك فما كان لنا إلا أن نلبي الدعوة ، فبدأ صديقنا بإجراء اتصالاته السرية بالشلّة كل على حدة ، ومن باب إلقاء الأوامر التي اعتاد عليها والتي تكون على شكل توزيع للمهام والأدوار ولتنسيق الجهود فيكلف كلا منا بمهمة سرية ، هذا للفحم وهذا للحم وهذا للخبز والمكسرات وهذا للبطيخة والفاكهة وهذا لنقلنا بمركبته ، ويشترط أن يكون اللحم ( بلدي) ومبالغا بكميته ؛ لأنه لا يستسيغ اللحوم المستوردة من جهة، وللهت والتفاخر من جهة أخرى ، ويقوم هو بإحضار زجاجتين من المشروبات الغازية ( ٢.٢٥) لتر ويخص نفسه بعلبة ( دايت) - من أجل حميته - والتي سرعان ما يشربها حتى يبدأ بكرع نصف الزجاجات الأخرى للتهضيم نتيجة ما التهمه من لحوم بِنهمٍ وشراهة بالغيْن ، فنقضي وقتا ممتعا ثم نبدأ بإلقاء عبارات الشكر والثناء المتداولة للمعزّب ( يخلف عليك، كثر خيرك، من قوة ، بالأفراح..) ويرد علينا ( مقصرين، صحتين وعافية..) ولا يخفى بأن كل واحد منا ينتظر في قرارة نفسه قيام المعزّب بأن يدفع له ما بذله بناء على تكليفه إلا أن ذلك لا يتم البتّة ويؤخذ هذا بسيف الحياء، ثم تنقصي الرحلة .
وبما أن صديقي يشبه الصقر في عيونه كان لا بد أن يتصف بشيء من صفاته سيما فيما يتعلق في القنص ؛ فقد كان صيادا ماهرا ومحترفا لا يشق له غبار ولم أر مثيلا له ، فبعد وقت قصير على ( العزومة ) يبدأ صاحبنا بقصة التذمر والشكوى والمعاناة التي لحقت به جراء دعوته لنا ، فيتصل على كل واحد منا كل على حدة أيضا ليشكو له بأنه قد أفلس من وراء تلك الوليمة - التي كلفته دينارين وربع فقط - ، وأنه أصبح بحاجة إلى لمّة من الشلّة، لكن وللأمانة العلمية والتاريخية في النقل والسرد والوصف فقد كان صديقي حنونا ؛ فهو يعرف إمكانياتنا وقدراتنا جيدا فلا يكلفنا بما لا نطيق ولكن كل حسب وضعه فيأخذ من هذا عشرة دنانير ومن هذا خمسة ومن هذا دينارين ومن هذا دينار ومن الآخر كونه مفلسا يأخذ ولو جهدا او دعاء المهم أن لا يعود بسواد الوجه فارغ اليدين .
وفي مرة أعلن صاحبنا بأنه ينوي الزواج فما كان لنا من ُبدْ إلا ونلمّ له لمّة على شكل( نقوط) مسبق لإعانته على تكاليف الزواج المزعوم فكان من نصيبي أن أدفع له مائتي دينار وقدمتها له من نفس راضية لأجل السترة والزواج الذي لم يحصل.. ناهيك عن الذرائع المتعلقة بوالده حيث ادعى غير مرة بأنه في غيبوبة ويحتاج إلى لمّة ولغايات النخوة في مثل هذه المواقف لا يكون لنا إلا الوقوف بجانبه ولكن يتبين لاحقا بأن والده المرحوم لم يدخل المستشفى قط .
ولن أطيل أكثر ولكن باختصار فإن صاحبنا استند علينا كالجدار الأصم في أغلب مشاهد حياته، ودوما تجده متخصصا جدا في موضوع اللمّة فيعرف الطرق الملائمة لإستثمار المواقف والأزمات والمناسبات الخاصة به فقط واستغلالها لصالحه أيّما استغلال ، حتى أنه يأتيه رزقه غدقا ولو كان في بيته سواء في المسرات أو الويلات.
ذكرت مرة للشلّة وقبل سنوات بأنني أتطّلع للحصول على وظيفة تناسب شهاداتي العلمية العليا التي تجاوزت السبع شهادات من جهات وجامعات عالمية ومحلية عريقة مع خبرة عملية زادت عن العشرين عاما وثلاث لغات – نُسيتْ مع عدم الاستخدام – لأقارع زملائي بل ومن هم دوني من الناحية العلمية والأكاديمية والذين وصلوا إلى مناصب متقدمة ولا زلت أبارح مكاني ، فأخبروني بأن ألجأ إلى صاحبنا كونه ذا علاقات، وبالفعل قرعت بابه راجيا بأن أحظى على فرصة والذي أمّلني ووعدني خيرا، وبعدها طلب مني تصديق كافة شهاداتي بما فيها شهادة الثانوية حيث تكبدت ما تكبدت من مشقة وعناء ، ثم دق على صدره وقال لي ( القصة عندي )، وبعد أن مضى على ذلك زمنا طويلا فكلما أراجعه يُطمأنني بأن الأمور تسير كما يجب وعلى ما يرام حتى بدأ بالمراوغة والتملص ، وفي مرة مرض صديقي فذهبت لعيادته ، وكونه طريح الفراش ولا يوجد من يقوم على خدمته فحتى أنه لم يتزوج أصلا وأصبح بدينا - من لحوم السلبطة طبعا - ، فدخلت إلى المطبخ لإعداد الشاي وهنا حصلت المفاجأة والصدمة عندما رأيت ملف شهاداتي وقد ألقيت في سلة قمامة صديقي دون أن يرّف له رمش!!! حقا ما هذا الصديق ؟؟!! :
يرتع ولا يدفع ، يمتع ولا يقنع ، يقرع ولا يفزع ، يمنع ولا يشفع ، يقمع ولا يرفع ، يقطع ولا ينفع، يلسع ولا يسمع، يصفع ولا يدمع ، يفجع ولا يجزع ، يصرع ولا يصنع ، يقلع ولا يزرع ، يركع ولا يخشع ، يبلع ولا يشبع...! البقية تأتي