الإنسانية والإيمان

متى يكون الإنسان إنسانا؟ هل يجب أن تتوفر في الإنسان معايير محددة، حتى يكون هذا إنسان والآخر مجرد من الإنسانية؟ متى يشتغل الإيمان حتى يؤنسن الإنسان؟ هل الإيمان أصبح محددا بمعايير وانتماءات، أم أن الإيمان مفتوح لا حدود له؟

أمام هذا الحقل الاستفهامي، نستحضر بداية الحديث النبوي الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؛ فشرط الإيمان في الحديث حدده الرسول الكريم بفعل "يحب"، وهو فعل يدل على الاستمرارية؛ أي أن الحب لا يجب أن يتوقف، بل يعمل في إطار علائقي متبادل بين الناس قصد بناء مجتمع إنساني تسوده قيم المحبة والتآخي والإحساس بالآخر، ومن ثمة، يشتغل الإيمان كإوالية تتجلى معالمها بين الإنسان والناس من جهة، والإنسان والله من جهة أخرى.

 يشتغل الإيمان كإوالية تتجلى معالمها بين الإنسان والناس من جهة، والإنسان والله من جهة أخرى.

إن الإنسانية التي نقصد في هذه الورقة، ليس الإنسانية العلمانية أو الإنسانية الدينية أو غيرها من الإنسانيات التي تناولها الفلاسفة ورواد الفكر بالتحليل والتفسير خلال مرحلة النهضة الغربية، وإنما نقصد بالإنسانية هنا، الإنسانية التي تمنح الإنسان سيادة عبر استثمار فكره الحر وأخلاقه الراقية، وإيمانه المفتوح، ليستفيد منه الإنسان؛ بمعنى تسخير كل القدرات الإنسانية المادية والمعنوية لصالح الإنسان مع تجاوز الانتمائية والطبقية والعنصرية، وتخطي الحدود؛ فبهذا السلوك الإنساني نجد أنفسنا نتحدث عن إنسانية متحررة من كل الحمولات الإيديولوجية؛ فكثيرا ما روجت بعض البلدان لمفاهيم وأفكار مؤدلجة تحت شعار الإنسانية بغية الهيمنة والاستغلال، وبالتالي يجد الإنسان نفسه تحت رحمة إنسان آخر، في حريته ومأكله وملبسه وما إلى ذلك، حيث تنتفي مظاهر الإنسانية ويصبح الإنسان تابعا للإنسان قهرا، وبالتالي ينتفي الإيمان، لأن قيمة الحب انتفت، وحلت محلها الكراهية والبغض، وتبعا لهذا السلوك تختفي كل قيم الحب والتآخي ويولد سلوك العنف والحقد، مما يؤدي إلى صراع إنساني، بدأت ملامحه مع قابيل وهابيل، وتوسعت حدوده إلى اليوم الذي نعيشه، ونتج عن ذلك صراع بين الملل والمذاهب، وتعددت الانتماءات، فضاع الإنسان كإنسان بين متاهات الخلاف والصراع، وانتهت القيم التي يستطيع أن يبني بها الإنسان مع أخيه الإنسان مجتمعا مؤمنا يتسم بالشمولية.

 

 نتحدث عن إنسانية متحررة من كل الحمولات الإيديولوجية؛ فكثيرا ما روجت بعض البلدان لمفاهيم وأفكار مؤدلجة تحت شعار الإنسانية بغية الهيمنة والاستغلال

إن ما نعيشه اليوم من انجراف وراء المظاهر والمادة، أسهم بشكل واضح في اختفاء القيم الجميلة، كما أسهم في تفكك العلاقة بين الناس، الإنسان لا يفكر في حب أخيه الإنسان، وإن كان يمارس إيمانه بطريقته الخاصة، همه التفكير في نفسه، وماذا حقق؟ وما يجب أن يحقق؟ لا يهمه أن يكون ذلك على حساب إنسان آخر، الأمر الذي زاد في تفكك العلاقات الإنسانية، فاتسعت الهوة بين الإنسان والإنسان وإن كان جاره الذي لا يعرفه إلا من خلال رقم شقته أو نوع سيارته (فلان الذي يقيم في الشقة رقم كذا أو فلان الذي يملك سيارة نوع كذا). فعلى الرغم من أن ديننا الحنيف أوصى بالجار، وحث على حسن معاملته، إذ ورد في قوله تعالى:‏ "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا‏، وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامي والمساكين والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل"‏ [النساء‏: 36 ]

كما جاء في الحديث النبوي أن الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، قال‏ :‏ "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه" .

وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" (رواه مسلم) ـ

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏: "‏ والله لا يؤمن‏، والله لا يؤمن‏،‏ والله لا يؤمن قيل‏:‏ من يا رسول الله؟ قال‏:‏ الذي لا يأمن جاره بوائقه".

وفي رواية للإمام مسلم‏: ‏"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، والبوائق، معناها‏:‏ الغوائل والشرور‏، وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره" (رواه البخاري) ـ

فالآيات القرآنية‏ والأحاديث النبوية تحث على رعاية الجار‏، وتضع الأسس والضوابط للتعامل مع الجيران‏، والحث على الاهتمام بالجار وحسن معاملته هي غاية حسنة، الغرض منها الإسهام في بناء مجتمع متكامل وشمولي. والأمر لا يقف عند هذ الحد، بل حرص الدين الإسلامي على تحقيق الإيمان بالتعاون بين جميع الناس ورغبهم فيه، حرصا على ترابطهم وتماسكهم، قال عز وجل في كتابه العزيز: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [المائدة: 2]

وقال كذلك: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر: 1-3]

وجاء في الحديث النبوي الشريف، قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا"، وقال كذلك: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كربةً، فرج الله عنه كربةً مِن كربات يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة".

 

حرص الدين الإسلامي على تحقيق الإيمان بالتعاون بين جميع الناس ورغبهم فيه، حرصا على ترابطهم وتماسكهم

 

تتضمن النصوص المذكورة أعلاه، قيما جلى، تحفظ كرامة الإنسان وتصونها؛ فالحث على التعاون مظهر من مظاهر الترابط والتوحد، والحث على التواصي بالحق والصبر مظهر من مظاهر احترام الإنسان لأخيه الإنسان وتقديره، وفي ذلك تماسك وتوحد يقويان شوكتهم ويعززان تماسكهم.

إن مثل هذه القيم التي حث عليها دين الإسلام هي قيم سابقة عن الإيمان، بل هي شرط أساسي من شروط تحقق الإيمان؛ بمعنى أنه لا إيمان بدون تعاون أو ترابط أو صبر أو ستر..إلخ؛ أي أن عناية الإنسانية بأخيه الإنسان هي من أولويات الإيمان، فكيف يكون المؤمن مؤمنا، وجاره في ضيق من حاله، وكيف يكون المؤمن مؤمنا، وهو لا يملك حسا إنسانيا تجاه الناس.

إذن، فالإيمان يجب أن يكون بالإنسان أولا، لأن الإيمان بالله أمر جازم لا شك فيه، وهو أمر مشترك بين جميع الناس لا يختلف فيه اثنان، والإيمان بمعتقد ديني أو مذهب فكري أو فلسفي هو أمر فردي، إذ يؤمن الفرد بفكر أو دين اقتنع بهما؛ فقد ورد في (الموسوعة الحرة وكيبيديا) أن الإيمان هو ما كان إيمان بمجموعة من الأفكار أو نسق فكري يشكل فلسفة أو حتى مجرد ممارسات حياتية، انطلاقا من أفكار معينة قد تتعلق بالروح، مثل المدراس الروحانية أو يمكن أن تكون مدرسة فلسفية مثالية أو مادية أو حتى فلسفات لا دينية، مثل الماركسية والشيوعية وأحيانا يكون الإيمان بالإيديولوجيات سواء الفلسفية أو السياسية، مثل الاشتراكية الديمقراطية. أما الإيمان بالله، فهو التصديق الجازم بوجود الله.

ومن ثمة، فإن أنسنة الإيمان تقتضي تخطي حدود الإيمان الفردية، واستثمار ما هو إنساني لخدمة الإنسان عبر تجليات القيم الإنسانية الحميدة بين الناس، لأن في ذلك رفع من قيمة الإنسان وشأنه، ومنحه قدرة على التعبير والتفكير، مما يسهم في بناء مجتمع إنساني حر، تنتفي فيه الطبقية، وتختفي الانتماءات التي غالبا ما تكون سببا في قهر الإنسان والحط من كرامته، وبالتالي يبرز الإنسان عالي الشأن مرفوع الرأس، حيث يشعر بتحرره من كل ما كان أو يكون سببا في إخماد نور سعادته، وإغلاق أبواب مستقبله المنشود، وهذا لن يتحقق بطبيعة الحال إلا في مجتمع إنساني يكون فيه الإيمان بلا حدود.

لقد أسهمت تعددية المذاهب والاتجاهات الفكرية في زرع التجزئة التي أثرت على السلوك الإنساني، وأصبح الإنسان تائها بين اتجاهات وأفكار، تولد عنها اتباع سلوكات تتحكم في توجيهه، ومع الوقت أصبحت ناموسا يؤمن به إلى درجة يجعل منه إيمانا أقوى من إيمانه الفطري؛ أي الإيمان بالله. ومن ثمة، بدأت العلاقات الإنسانية في معناها الشمولي، تشهد تفككا أثر على العلاقات بين الناس التي لم يعد يظهر منها سوى الحيطة والحذر، وسوء الظن، وهي سلوكات لم يدع إليها ديننا الحنيف، بل حث على فعل الخير والتعاون والتمسك بالعروة الوثقى.

وهكذا، أصبح المجتمع الإنساني يعيش حالة تفكك فكري أخلاقي وسلوكي؛ ففي الوقت الذي دعا فيه القرآن الكريم الناس إلى التعاون والتآخي والحب كشروط أساسية من صحة الإيمان، انجرف بعض الناس وراء مظاهر مغلفة بالحداثة، أو ظنوا أن من يتبعها يصنف في دائرة المحدثين الذين يؤمنون بالتحرر والإبداع، غير أن الأمر لم يكن بهذا الشكل، إذ لم يتبعوا حداثة في شكلها وأساسها الصحيحين، ولم يحافظوا على ما حث عليه القرآن الكريم، بخلاف ذلك، تسمك آخرون بعصر المسلمين الذهبي، ودعوا إلى إحياء قيمه ومبادئه كما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. وكل اتجاه يظن أنه على صواب، يقبل من معه، ويرفض من عارضه... وعلى هذا النحو عاش الإنسان بين متبع ومقلد وتائه، وشهد وعيه تشوشا لا يستطيع معه الإيمان بما يجب الإيمان به.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد، هو ما السبيل الصحيح للخروج من دوامة التفكك؟ كيف يمكن للإنسان أن يحقق إيمانا شموليا يجمع فيه بين الفطري والإنساني؟

 

أنسنة الإيمان تقتضي تخطي حدود الإيمان الفردية، واستثمار ما هو إنساني لخدمة الإنسان عبر تجليات القيم الإنسانية الحميدة بين الناس

 

إن ارتماء الإنسان بين أحضان ثقافته الأصيلة هو الذي يستطيع أن يحقق به إيمانا شموليا، ونقصد بالثقافة الأصيلة كل ثقافة شعبية يلمس فيها الإنسان علاقات حسية شعورية تربطه بأخيه الإنسان، إذ غالبًا ما يتلمس مثل هذه الأشياء في ثقافته الشعبية التي تنقله بنصوصها المختلفة من عالم التوتر والتناقض إلى عالم الهدوء والشمولية، ولعله في انتقاله هذا يغذي نفسه بتطهير داخلي مادته القيم النبيلة التي لم تعد حاضرة، بل هي في اختفاء مستمر أمام زحف الماديات الذي غطى القيم الإنسانية، لذلك وجب على الإنسان تكليف نفسه جهدًا في سبيل الحفاظ على قيمه التي تحفظ هويته وتصون كرامته، حيث الاستقرار الذي يضمن له حرية التفكير وبالتالي الإبداع والإيمان بما يبدع، ليتجاوز التقليد أولا والاتباع ثانيا، كي يحافظ على ثقافته الفطرية التي تمنحه كيانه في البيئة التي ينتمي إليها، وتجعل منه فردًا فاعلاً في تقويم العقل وتهذيبه وتنميته قصد بناء مجتمع ناهض مبدع مستقر وآمن، وهنا تبرز تيمة العمل التي حث عليها الشرع الإسلامي، إذ ربط العمل بالإيمان، قال تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ"[التوبة:105]،وقال كذلك: "يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا"[الأنعام : 158]

 

نقصد بالثقافة الأصيلة كل ثقافة شعبية يلمس فيها الإنسان علاقات حسية شعورية تربطه بأخيه الإنسان

 

إن العلاقة بين الإيمان والعمل هي علاقة وثيقة؛ فالعمل لا يكون مثمرا بارزة نتائجه ما لم يكن مسبوقا بإيمان صادق صحيح، والإيمان لا يرتع إلا في قلب إنسان تنبض مشاعره بالحب والصدق والإخلاص؛ فكلما توافرت هذه المعطيات بعيدا عن كل الشوائب التي قد تعيق أو تؤثر على هذه العناصر أو بعضها، استطاع المجتمع أن ينهض ويتطور ويحقق التقدم المنشود.

أضف تعليقك