الأرقام تكذب

الأرقام تكذب
الرابط المختصر

 

ذاع على لسان الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين (1835-1910) العبارة الشهيرة، التي لم يعرف صاحبها، وتقول "هنالك ثلاثة أنواع للكذب: الأكاذيب، والأكاذيب اللعينة، والإحصائيات". أيٍّ كان أول من أطلقها، وأول من تلقفها ثم أذاعها، فقد أصبحت إحدى أكثر العبارات رواجاً حول العالم، ليس بهدف تعداد أنواع الكذب وضروبه كما توحي العبارة للوهلة الأولى، إنما في إشارة تهكمية إلى القوة العظيمة التي تمتلكها الإحصائيات، وهو ما يجعل منها أداة متفوقة في يد أحدهم لدعم أكثر الحجج هزالاً، وفي يد الآخر لدحض أكثر الحجج تماسكاً، وما يترتب على الفعلين السابقين من قلب للحقائق وتلاعب بالرأي العام.

 

يدرك المشتغلون بالأرقام وعلومها هذه الحقيقة النظرية جيداً، بينما يبرع المشتغلون بالصحافة والسياسة والشأن العام في مناحي تطبيقها، ولا يعود مستغرباً بعد ذلك معرفة أن أكثر كتب الإحصاء شهرةً ومبيعاً حول العالم هو من إنتاج كاتب صحفي غير دارس للأرقام وعلومها!

 

نشر الكاتب والصحفي الأمريكي دارريل هافف، في عام 1954، كتاباً أسماه "كيف تكذب بالإحصائيات"، وقدم من خلاله مقدمة سلسة وخفيفة الظل في علم الإحصاء للقارئ العادي، وتحول هذا الكتاب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى كتاب معتمد يدرس في العديد من الكليات مقدمة في علم الإحصاء، وتٌرجم إلى العديد من لغات العالم، وبيع من النسخة الإنجليزية للكتاب أكثر من نصف مليون نسخة، ويواصل هذا الكتاب المصحوب برسوم كاريكاتورية معبرة، حتى هذه اللحظة، نجاحه بوصفه أكثر كتاب في علم الإحصاء قراءةً ومبيعاً حول العالم.

 

لم يقصد هافف من وراء كتابه هذا تقديم وصفات سهلة في فن الخداع والتضليل، بل قصد العكس تماماً، أراد للقارئ البسيط العادي صاحب الذكاء المتواضع والكاره غالبا للأرقام وعلومها أن يفهم جيداً كيف تكذب الأرقام في جريدته اليومية، ونشرة الأخبار المسائية، والمجلات الدورية العلمية منها والترفيهية.

 

تبدو الأرقام التي نشرتها الأمم المتحدة مؤخراً عن نجاحاتها الباهرة في تقليص الفقر حول العالم إلى النصف مثالاً مكتمل البلاغة على عبارة توين الشهيرة! المثير أن الأرقام الصادرة عن المنظمة الدولية نفسها كانت تشير طوال العقدين الماضيين إلى تزايد مستمر في أعداد الجياع حول العالم. إذاً، ما الذي تغير فجأة؟ الجواب بسيط، إذ قررت الأمم المتحدة أن تغير طريقتها في العد! بعد أن كان الهدف المتفق عليه في العام 1996 هو تقليص العدد الكلي للجياع حول العالم إلى النصف بحلول العام 2015، أصبح الهدف الجديد تقليص النسبة المئوية للجياع، لا عددهم الكلي.

 

حتى هذا التلاعب لم يساعد في تجميل واقع الفقر حول العالم كثيراً، فقررت الأمم المتحدة أن تبدأ العد من العام 1990، أي قبل ست سنوات على بداية نشاطاتها في محاربة الفقر، وبهذا ضمت الأمم المتحدة لنجاحاتها المزعومة النجاحات الحقيقية، التي حققتها الصين في العام 1990، في محاربة الفقر بعد إصدارها حزمة من قوانين الإصلاح على تملك الأراضي. كل هذه الافتراءات، وعلى الرغم من غلوها، لا تأخد أيضاً بعين الاعتبار زيف خط الفقر، الذي تعتمده الأمم المتحدة أساساً في حساباتها، وهو 1.25 دولار للفرد في اليوم، وتعتمد فيه الأمم المتحدة على افتراض حاجة الإنسان لعدد معين من السعرات الحرارية، في اليوم، لا يكفي بأي شكل من الأشكال الكادحين الأشقياء في هذا العالم للوقوف على أرجلهم!

 

كأن الكذبة الأولى لم تكن كافية! أعلنت الأمم المتحدة في أيلول من العام الحالي، وبعد نجاحاتها الباهرة في تقليص الفقر الى النصف في المدة المحددة، أنها من الآن فصاعداً لن تقبل بتقليص الفقر، فالقبول بنسبة مئوية للفقر، حتى وإن كانت نسبة مئوية ضئيلة، لا يبدو أمراً اخلاقياً البتة، لذلك قررت هذه المرة أنها ستقضي على الفقر نهائيا بحلول العام 2030؛ أي بعد خمسة عشرة عام من الآن فقط!

 

لا يهم الأمم المتحدة في مساعيها الجديدة أن خط الفقر المعتمد قد فقد كل مصداقية تٌذكر، وأنه يلزم الشخص الواحد ضعف هذا الرقم على أقل تقدير لتأمين أتفه الحاجات الأساسية بحسب تقديرات خبراء في الاقتصاد، ولا يبدو أنها مدركة أن دعواتها لزيادة الناتج المحلي الإجمالي في الدول الفقيرة ليست كفيلة وحدها بالقضاء على الفقر ولا حتى تقليصه، وتتغافل عن الاعتراف بأن النموذج الاقتصادي العالمي في شكله الحالي لن يسمح أصلاً بتوزيع الثروات وإن زاد الناتج المحلي الإجمالي لأن ما يحصل حقيقة، بحسب قول أحد الخبراء، هو تكديس في الأعلى وتقشف في الأسفل، كما لا يبدو أنها معنية بأن التركيز على زيادة الإنتاج بدلاً من التركيز على العدالة في توزيعه سيدفع بالكرة الأرضية ومواردها المستنزفة إلى حدودها القصوى. كل هذا لا يهم، فالأمم المتحدة ماضية في هدفها الإنمائي الجديد نحو القضاء على الفقر نهائياً من هذا العالم.

 

من يقع كتاب هافف بين يديه، ويسعفه الحظ في قراءته، لن ينتظر الخبراء ليكشفوا له أكاذيب الأمم المتحدة اللعينة، وسيتوقف لبرهة كلما قرأ في صحيفته اليومية خبر تحسن الناتج المحلى الأجمالي، وسيسأل عن مواصفات عينة الدراسة التي تشير إلى إنخفاض في نسب البطالة وتحسن في معدلات التوظيف، ولن تمر عليه بسهولة إدعاءات نجاح نشاطات تمكين المرأة وزيادة مشاركتها في الحياة السياسية، ولن يغير صابون استحمامه ومعجون أسنانه لأن الأرقام تتحدث عما هو أفضل، وسيأفل في عينه بريق نسبة 100%!

من يقرأ كتاب هافف سيدرك جيداً أن للكذب ثلاثة أنواع لا غير: أكاذيب، وأكاذيب لعينة، وإحصائيات.

وسماء الحسيني خبيرة سموم في قطاع البتروكيميائيات في هولندا، وباحثة في التحركات المدنية الخلاقة التي تعمل نحو عالم أفضل.