استحالة تشكيل حكومة برلمانية في ظل مقاطعة الانتخابات !
تنتظر الساحة المحلية الأردنية في الفترة المتبقية من العام الحالي استحقاقا دستوريا على قدر كبير من الأهمية يتمثل في إجراء انتخابات تشريعية لاختيار أعضاء مجلس النواب السابع عشر وذلك وفق أحكام قانون الانتخاب الحالي لعام 2012 الذي أبقى على نظام الصوت الواحد بالاشتراك مع نظام القائمة الوطنية.
وكشرط دستوري لإجراء الانتخابات التشريعية، فإن الدستور الأردني بحلته المعدلة يشترط أن يتم حل مجلس النواب أولا قبل الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، التي لا يمكن للحكومة الحالية أن تجريها تطبيقا لأحكام المادة (74/2) من الدستور حيث تنص على وجوب استقالة الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها خلال أسبوع من تاريخ الحل، وعلى عدم جواز تكليف رئيسها بتشكيل الحكومة التي تليها.
إن الهدف الأسمى للإصلاح السياسي في الأردن يتمثل في تشكيل حكومة برلمانية منتخبة تفرزها انتخابات برلمانية حزبية وذلك كبديل عن الآلية الحالية لتشكيل الحكومة التي تعطي الملك الحق المطلق في اختيار شخص رئيس الوزراء والوزراء في السلطة التنفيذية. هذا يعني أنه يفترض بالحكومة المقبلة التي ستخلف حكومة الطراونة في الدوار الرابع لإجراء الانتخابات التشريعية القادمة أن تتقدم باستقالتها الخطية بعد فرز وإعلان نتائج الانتخاب لمجلس النواب السابع عشر، لكي يتسنى للحزب السياسي الفائز في الانتخابات المقبلة تشكيل حكومة برلمانية.
إلا أن المتابع للمشهد السياسي الأردني وللتصعيد الشعبي والحزبي ضد قانون الانتخاب الجديد يجعل من مجرد التفكير في أن تفرز الانتخابات المزمع إجراؤها في نهاية العام الحالي حكومة برلمانية ضرب من ضروب الخيال. فقد أعلن أكثر من تنظيم سياسي وحزبي أردني مقاطعته للانتخابات البرلمانية المقبلة وفي مقدمتهم جماعة الأخوان المسلمين، وهو ما دفع بعضهم للدعوة إلى تأجيل الانتخابات التشريعية المقبلة للدفع باتجاه إقناع هذه القوى السياسية والحزبية بالمشاركة في الانتخابات لضمان تحقيق الهدف المنشود من الإصلاح وتشكيل حكومة برلمانية.
وأمام هذه المعطيات السياسية، وعلى فرض تمسك السلطات العليا بقرارها إجراء الانتخابات النيابية خلال الأشهر القادمة، فإن التساؤل يثور حول القدرة على تشكيل حكومة برلمانية في ظل عدم وجود حزب سياسي ذات أغلبية برلمانية في مجلس النواب القادم، وهو السيناريو الأقرب إلى التحقيق في ظل المقاطعات السياسية بالجملة للأحزاب السياسية.
إن هناك من يرى أنه في ظل عدم وجود حزب سياسي فائز في الانتخابات، فإن الحكومة المؤلفة بعد الانتخاب ستتشكل من الكتلة ذات الأغلبية البرلمانية في مجلس النواب. فقد شهدت المجالس النيابية السابقة تجمعا لعدد من السادة النواب في شكل كتل برلمانية وذلك بعد وصولهم للمجلس النيابي، حيث يمكن تكليف الكتلة البرلمانية ذات الأغلبية الأكثر في مجلس النواب بتشكيل الحكومة ما بعد الانتخابات التشريعية القادمة.
إن مثل هذه الحكومة إذا ما تشكلت من الكتلة البرلمانية ذات الأغلبية في مجلس النواب فإنه لا يمكن اعتبارها حكومة برلمانية حزبية منتخبة، وإن كانت تضم بين أعضائها نوابا منتخبين، ذلك أن المفهوم الدستوري للحكومة البرلمانية يقتصر فقط على الحكومة الحزبية التي يشكلها الحزب الذي خاض الانتخابات التشريعية وفق برامج سياسية وخطط عمل معينة طرحها على الناخبين الذين اقتنعوا بها وصوتوا لمرشحيه على أساس تلك البرامج والأعمال، لكي يتسلم ذلك الحزب السياسي دفة القيادة في السلطة التنفيذية بغية تحقيق ما قطعه على نفسه من وعود أمام ناخبيه.
مثل هذا الأمر غير متوفر في الكتلة البرلمانية التي عادة ما تضم بين أعضائها نوابا لا تجمع بينهم أية صفات أو اعتبارات سياسية مشتركة، وانما اعتبارات اقليمية أو جهوية أو حتى مصالح مالية وشخصية. لذا، فإنه في ظل غياب أي كتلة برلمانية يكون لها برنامج عمل واضح ومحدد وسياسة عامة لإدارة الدولة تسعى إلى تحقيقها، فإن تكليفها بتشكيل الحكومة يعد تناقضا مع مفهوم الحكومة البرلمانية المنتخبة.
كما أن الغاية من تشكيل حكومة برلمانية من الحزب الفائز في الانتخابات هي ضمان الأغلبية البرلمانية المطلقة لتلك الحكومة منذ تشكيلها وأثناء عملها من خلال ما تصدره من قرارات وما تقدمه من مشاريع قوانين ما دام أن أنصارها ممثلي الحزب السياسي موجودون في البرلمان.
مثل هذا الأمر لا يتحقق في حال تشكيل حكومة من الكتلة البرلمانية ذات الأغلبية الأكبر في مجلس النواب ذلك أن احتمال انسحاب عدد كبير من النواب من تلك الكتلة هو أمر وارد جدا خاصة في ظل غياب أية روابط سياسية أو فكرية بين أعضائها. فقد جرت العادة على أن يمارس السادة النواب لعبة الكراسي المتحركة داخل أروقة المجلس من خلال الانتقال بين الكتل البرلمانية وتغييرها بأوقات زمنية قصيرة، وهو ما من شأنه أن يحرم الحكومة المشكلة من ذات الكتلة البرلمانية من الأغلبية الضرورية لها في مجلس النواب لأداء عملها الحكومي.
لذا فالحل الدستوري لمشكلة عدم وجود حزب سياسي فائز بالانتخابات التشريعية المقبلة هو الإبقاء على الحكومة التي أدارت ملف الانتخابات التشريعية القادمة خاصة في ظل غياب أي التزام دستوري عليها بالاستقالة بعد إجراء الانتخابات البرلمانية. فالدستور الأردني في المادة (74/2) منه لم ينص صراحة على أن الحكومة التي تشكل بعد حل البرلمان وإجراء الانتخابات هي حكومة انتقالية يجب عليها أن تستقيل بعد إجراء الانتخابات، ذلك على خلاف التعديل الدستوري الذي جرى على المادة (74) من الدستور الأردني عام 1954 بإضافة الفقرة (2) إليها والتي كانت تنص على أن "الحكومة التي يحل مجلس النواب في عهدها تستقيل من الحكم خلال أسبوع من تاريخ الحل على أن تجرى الانتخابات النيابية حكومة انتقالية لا يجوز لأي وزير فيها أن يرشح نفسه لهذه الانتخابات". إلا أنه قد تم إلغاء هذا النص الدستوري المعدل عام 1958.
ففي ظل عدم اعتبار المشرع الدستوري الحكومة التي تجري الانتخابات بعد حل البرلمان أنها حكومة انتقالية، فإن الإبقاء عليها لمرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة لا يعد مخالفة لأحكام الدستور، وإن كان يعد بمثابة ضربة موجعة للإصلاح السياسي في الأردن وذلك من خلال الإبقاء على الحق المنفرد للملك في تعيين رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة في الأردن، بدلا من البدء بتطبيق نظام الحكومة البرلمانية المنتخبة.
من هنا تكمن أهمية أن تبادر الدولة إلى فتح قنوات الاتصال مع الأحزاب السياسية التي اتخذت موقفا سلبيا من قانون الانتخاب الحالي وذلك بهدف محاولة اقناعها بضرورة المشاركة في الانتخابات المقبلة وتشكيل ثقل سياسي داخل مجلس النواب يسمح لها بنقل معارضتها إلى داخل أروقة المجلس. فالأحزاب السياسية المقاطعة إذا ما شاركت في الانتخابات المقبلة وحصلت على تمثيل نيابي لها في مجلس النواب، فإنه يصبح لديها سلطات دستورية واسعة يمكن أن تكرسها لصالح الضغط على الحكومة من أجل إعادة فتح ملف قانون الانتخاب وتعديله وفقا لرؤيتها الخاصة بالإصلاح، وفرض رقابة سياسية أكبر على أعمال السلطة التنفيذية والدفع باتجاه قدر أكبر من الإصلاحات السياسية والدستورية خلال الفترة المقبلة.
فبدلا من مجرد الاكتفاء برفع الشعارات الرنانة التي تنادي بالإصلاح واتخاذ موقف سلبي يقوم على كيل الاتهامات بأن السلطات العليا تحارب الاصلاح وغير جادة به، فإن الأحزاب السياسية الأردنية تملك الآن فرصة ذهبية لاثبات حسن نواياها الإصلاحية وذلك من خلال الوصول وبأعداد محترمة إلى قبة البرلمان من خلال استغلال فكرة القائمة الوطنية، ومن ثم البدء في تغيير مجريات الأحداث وتسريع الإصلاح وذلك من موقع المسؤولية باعتبارهم أعضاء في السلطة التشريعية ذات الاختصاص الأصيل في سن القوانين وتعديلها وتعديل أحكام الدستور.
* أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
العرب اليوم