منذ أن بدأت تباشير الحملة الانتخابية الجارية في هذه الآونة على قدم وساق، بل وقبل أن يتم اعتماد قائمة المرشحين وينطلق السباق، لم يحظ المتنافسون فيما بينهم على مقاعد المجلس النيابي بكلمة تعاطف واحدة، ولم يصدر عن المشتغلين بتوجيه الرأي العام أي موقف تضامني متفهم لظروف ومشاعر وأوضاع نحو ثمانمئة رجل وامرأة يستأنسون في أنفسهم القدرة والأهلية معاً لتمثيل مجتمعاتهم الصغيرة ونيل شرف حمل أوزار المسؤولية الوطنية الكبيرة.
قد تكون هذه المقالة، المتأخرة بعض الشيء، أول مرافعة متواضعة من نوعها عن هؤلاء المرشحين، الذين سيسهدون طوال الأيام القليلة المقبلة حتى مطلع الفجر، وهم يراجعون جداول الناخبين في دوائرهم الفرعية، ويعقدون آخر الاجتماعات التشاورية، وأهمها بالضرورة، مع أركان حملاتهم الانتخابية، لعل جهود ربع الساعة الأخيرة من التسابق الذي يقطع الأنفاس نحو مقاعد القبة ترفع من سوية الحملة المحتدمة، وتزيد من دوران ماكينة العجلة التي طحنت منذ تشغيلها في وقت مبكر الكثير من الزيوان مع حبات القمح الممتلئة.
وفيما يتراءى المشهد الانتخابي للمراقبين عن بعد، على أنه مجرد حملة محمومة بين عشرات من الطامحين والطامعين، ومثلهم من أصحاب المال وذوي النفوذ، وغيرهم من المتعطشين للجاه والسلطة والصدارة، إلى جانب قلة قليلة من الجديرين بتقلد وسام الخدمة العامة، كتكليف لا كتشريف، فإن معطيات المشهد الانتخابي من داخل المقرات قد لا تكون متطابقة مع مظاهره الخارجية، وهو الأمر الذي نود تسليط قدر ضئيل من الضوء عليه.
ذلك أنه طوال أيام هذه الحملة، شأنها شأن كل حملة انتخابية سابقة، قضى المرشحون أوقاتهم، آناء الليل وأطراف النهار، وهم يستحثون كل مواطن على التصويت، وينقبون في محيطهم الاجتماعي عن كل ناخب متردد، يسترضون هذا ويستعطفون ذاك، يتوددون إلى كل حامل بطاقة أحوال مدنية، يخفضون الجناح هنا ويبسطون أيديهم كل البسط هناك لأصحاب المفاتيح ومقاولي الأصوات، حيث يبدو الناخب، ولو لقليل من الوقت، سيدا مهاب الجانب، والمرشح على العكس منه، لينا مطواعا ومحل عطف وإشفاق.
وإذا ما أردنا تسمية الأشياء بمسمياتها، لقلنا إن هناك تحاملا، إن لم يكن هناك ابتزاز خفي من جانب المرشحين تجاه الناخبين، وإن هناك استقواء وسعيا، نحسب أنه مشروع بعض الشيء من جانب أصحاب حق الاقتراع، لنيل الوعود وأخذ العهود، وكسب المنافع الشخصية وتحصيل التقديمات الاجتماعية، لا سيما من طرف من يقدمون أنفسهم كنواب خدمات ومناطق لا كنواب وطن، ويسرفون في قطع التعهدات بلا حساب، طالما أن أحداً لن يرى أحداً بعد حفل يوم الاقتراع.
وليس من شك في أن الأكثرية الكاثرة من المرشحين يدركون في قرارة أنفسهم ومن دون مراء، أنهم يتعرضون في هذا الوقت المستقطع لقدر كبير من الابتزاز، وأن عليهم أن يقبلوا بقواعد اللعبة من دون تأفف أو امتعاض، وليس لهم إلا أن يتماهوا وهم يبتسمون مع المزاج الانتخابي العام، ومع تقاليده القائمة على المجاملة المفرطة، وغض البصر وكظم الغيظ والاسترضاء، تماما على نحو ما تبدو عليه ملكات الجمال في ليلة الاستعراض الكبير من أناقة باذخة أمام لجنة المحكّمين.
إذ يعي هؤلاء المرشحون، من الآن، أن نحو خمسة وثمانين في المائة منهم سوف يخسرون الرهان، وأن مئات الألوف، إن لم تكن ملايين الدنانير المنفقة على الدعايات والصور واليافطات والخيم والولائم وغيرها، لن يعود منها سوى القليل، وعلى الناجحين فقط، في صورة رواتب خالية من دسم الامتيازات. ومع ذلك فإنهم يتقبلون هذا الوضع سلفا، بل ويقبلون تعرضهم للتحامل وللابتزاز عن طيب خاطر. فهل بعد هذا كله يواصل الإعلام وقادة الرأي العام رجم المتسابقين إلى قبة البرلمان بكل حجارة الكلام، ومن عيار كبير في أغلب الأحيان؟
الغد