"إسلام" يضيق بأهله
يؤكد حكْم دار الإفتاء الأردنية، مؤخراً، بتحريم تعلّم علْم المنطق المختلط بالعقائد الفلسفية الباطلة، وحصر دراسته بـ"الكتب النقية من تلك المعتقدات"، على جمود المؤسسة الدينية الرسمية، حالها حال دواعش العصر، وسعيها إلى عزلنا وصولاً بنا إلى الانقراض.
يُخيّل لمن يتتبع فتواهم أنهم اكتشفوا الإسلام هذه اللحظة، فتوهموا حرمة كل ما يرونه غريباً عنهم، غير منتبهين إلى أن حضارتنا الإسلامية لم تزدهر في بغداد والأندلس لولا ترجمة مراجع الفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية لدى اليونان والرومان والفرس وغيرهما، وبالاعتماد على تلك الكتب التي خطّها علماء غير مسلمين استطاع أجدادنا أن يفهموا عصرهم، ويهنؤوا بنمط عيش متطور، ويضيفوا ما أضافوه من معرفة.
يجهل المفتي، الذي يضع قيوداً على العلم، أن فلاسفة المسلمين، في القرن الرابع الهجري، قد ناقشوا قضايا حساسة تتعلق بالخلْق والإيمان والوجود، وتركوا آثاراً تشهد على حرية الفكر والسجالات الدائرة بينهم، كما تشهد على تراجعنا وتخلفنا قياساً بهم.
لا يكلّف المشتغلون بـ"أمور الدين" أنفسهم بالسؤال عن سرّ تجاور تقاليد وأعراف وثنية ويهودية ومسيحية وإسلامية في حياتنا، ابتداءً من خاتم الزواج وثوب العريس وكثير من طقوس الأعراس والعزاء التي تعود إلى أصلها الفرعوني والإغريقي، ومروراً باللباس الذي ارتدته شعوب المنطقة قديماً وطوّرته بما يناسبها لا ما يلائم "المتدينين الجدد"، هذه الأيام، وليس انتهاءً بالطبخ والشراب والعمارة والرموز التي توارثناها جيلاً عن جيل.
تخبرنا الأمهات في أرياف بلاد الشام والعراق عن خروج الأطفال والنسوة أيام القحط، مناشدين "أم الغيث" أن تُنزل المطر، في طقوس عرفها سكان المنطقة حتى سبعينيات القرن الماضي؛ أي بعد مرور 1400 عامٍ على مجيء الإسلام.
يعتقد البعض أن أم الغيث هي مريم العذراء، فيما يرجعها آخرون إلى أساطير أقدم ربما ترتبط بعشتار، إلهة الخصب، وربما ظهرت إحالات أخرى تدّل بوضوح على حجم وتأثير ثقافات قروناً مديدة، ولم يستطع أحد أن يقتلعها، بل تعايشت مع أساطير جديدة أتت بعدها، ولم تتناقض فيما بينها.
يريد السواد الأعظم من رجال الدين أن يفرضوا علينا إسلاماً "نقياً" يقطع صلتنا بالماضي، ويلغي ارتباطنا بالحاضر وعلومه وناسه، وبذلك يحجب عنّا المستقبل.
"مستقبل" مجهول نذهب إليه طائعين على يد السلطتين الدينية والسياسية، في بلادنا، ونحن نقيم في غيتو ثقافي؛ عزلة تامة، وفصام عن الواقع، ورغبة بالانتقام من الآخر الذي يتآمر علينا صبح مساء!
كاتب وصحافي. محرر “تكوين” في عمان نت.