إجهاض الإصلاح بالردة إلى البدائية
يجري هذه الأيام خطاب مكثف يخاطب النوازع البدائية لدى الناس، ويثير مخاوف البقاء ونزاع الندرة على النحو المعروف بيولوجيا وأنثروبولوجيا في فهم وتفسير سلوك الكائنات الحية (الثديات بخاصة)، أو التجمعات البدائية القائمة على جمع الثمار والصيد والرعي، والخوف والجوع؛ وذلك بتقسيم الناس حسب انتماءاتهم الجغرافية والقبلية، ومخاطبة غرائزهم ومخاوفهم العميقة. إذ يخوّف الناس من الإصلاح والعدالة باعتبارهما تهديدا للناس وضد بقائهم ومكتسباتهم، أو ضد حقوقهم ومواطنتهم، فيعاد تجميع الناس على أساس الصراع وتقسيم الريع والغنائم.. ولنتخيل تداعيات هذا التقسيم والتفاهم الذي يدعو إليه مثقفون من فلول يسارية أممية، ويغرفون من فكر ماركسي وغرامشي جميل وعميق، وتجارب نضالية مدهشة، وويل للأفكار والمجتمعات والناس والحكومات والمصالح عندما تستخدم الخبرات الحزبية والثقافة النضالية العميقة لأجل تكريس الرعوية والشللية والطائفية والشخصانية والشهوات والتطلعات البدائية المزينة بزخرف القول والرطانة. فلو ترك الناس لغرائزهم ومخاوفهم يعبرون عنها بتلقائية وبساطة، لأمكن بنسبة كبيرة تطويرها والارتقاء بها.. ولكن عندما تتسلط عليها عبقرية الفشل والإفشال تجعل الفساد متمكنا متمأسسا.. وبالغ الذكاء.. كما تطور فيروسات الإيدز نفسها على نحو متواصل يسابق التطور العلمي ويواجه تقنيات الدواء والعلاج بجينات جديدة لتدمير أكثر دهاء وذكاء للمناعة المكتسبة.
لنتخيل الدولة مقسمة على الفئات والعشائر والطوائف والمنابت والأصول.. هل ستوزع الخدمات التعليمية والصحية والطرق والجسور والموازنة على الناس والمدن والبلدات والفئات حسب حصصهم في الدولة؟ فكيف ستطور الطرق الزراعية في المفرق إذا كانت حصتهم في الدولة هي مؤسسة الغذاء والدواء؟ وكيف ستطور الخدمات في مخيم البقعة إن كانت حصته في الدولة هي دائرة المواصفات والمقاييس؟ وماذا سيفيد لواء عي إن كانت حصته تعيين أحد أبنائه سفيرا في بوليفيا؟! سنقود الدولة والموارد العامة إلى أن تكون حصة بين حوالي خمسمائة شخصية من النخب يحظون بالمكاسب والمناصب على أساس انتماءاتهم من غير تنافس ولا كفاءة، ويقاس الانتصار لمدينة أو محافظة أو فئة من الناس بعدد المناصب والوظائف التي حصلوا عليها. سوف نجعل مؤسسات الدولة المفترض أنها مبنية على أسس علمية ومهنية، حارات ومضافات، ونحشد العشائر والطوائف والقرى والمدن والمنابت والأصول في صراعات لا معنى فيها للانتصار أو الهزيمة. ماذا تعلم محرضو النزاعات والصراعات البدائية في الجامعات والأحزاب السياسية والتجارب النضالية؟ ولماذا تكون الجامعات والمختبرات والمؤسسات المتقدمة ابتداء وما حاجتنا إليها؟
في مرحلة من تقسيم النفوذ بين الطوائف في لبنان، أعطيت وزارة الصحة إلى إحدى الطوائف، وأسندت الوزارة إلى قائد محلي شبه أمّي، وذهب إلى مؤتمر وزراء الصحة بلباسه اللبناني التقليدي وشواربه الكثة وبنيته المهيبة التي أهلته ليكون عمدة وليس وزيرا للصحة، فيسأل وزير الصحة التونسي جاره الوزير المصري من ذاك الشخص، قال له: وزير الصحة اللبناني، قال: وكيف اختير وزيرا للصحة، فأجابه: علشان صحته كويسة!
الغد