إجابة عن سؤال الحرب والكتابة
سؤال يطرح عليّ كلّ يوم تقريباً: ماذا تعني الكتابة في ظلّ الموت والخراب واليباب؟ بل ما الفائدة منها؟!
نعم، أُسأل عن الفائدة مثلما يُسأل من لا يعمل في الكتابة! وكأنّ الكتابة مضاد للصواريخ، أو حبّة بندول، أو صرّاف آليّ، أو سلّة تموينيّة، أو سفينة آمنة إلى البلاد التي يريد المذعورون بشدّة، أن يهاجروا إليها!
راودتني رغبة حادّة بتأجيل الكتابة في ظلّ الحرب، إذ شغلت نفسي بأهوال التفاصيل اليوميّة، حيث أصوات الأسلحة الثقيلة، ونداءات الاستغاثة، وأنين الموجوعين والمعذّبين، وصراخ الذين راحوا يتصارعون على قيادة المستقبل، مستقبلهم طبعاً، يطغى على صوت الكتابة الذي ليس أكثر من مجاز. من سيسمع صوت الفنّ الكلاسيكيّ لحظة تحوّل الفنون إلى حزام ناسف ينثر الصور على الجدران، والموسيقى في الشوارع؟! إنّ الشكل الفنّيّ الذي أختاره للتعبير هو الذي يهتمّ برسم الخريطة الأخرى المغيّبة، إذ لست من الذين يسلمون أنفسهم للردود المباشرة مهما بلغت أهميّة الفعل وقسوته، لكنّ الصمت ليس فضيلة دائماً، فقد يحوّلنا إلى ضحايا، ولأنّني امتلكت دائماً شعوراً مقلقاً بالمسؤوليّة، اخترت أن أصوغ رؤيتي للراهن متّسقة مع التاريخ والجغرافيا وحياة الناس، وأفكارهم ورغباتهم، الناس الذين سيصيرون نماذج فنيّة تعيش في وجدان المتلقّي الذي مازال على قيد الحياة، ليتعاطف معها أو يأسف لها أو يدينها... وأيّاً كان شكل علاقته بها ستمنحه دافعاً لمراجعة مواقفه من الأحداث، وممّا يظنّ أنّه حتميّ في هذا العالم. يمكن له آنذاك أن يقرأ ملفّات الحرب والاستبداد بألفبائيّة جديدة، وأن يتتبّع خريطة التحوّلات بمقياس رسم آخر. مع قرار الكتابة في هذا الظرف الدمويّ المتطرّف يقتل الكاتب الملاك القابع داخله، وكذلك الشيطان.
أعتقد أنّني كتبت في ظلّ حالة أكثر ضراوة، بالنسبة لمدى حريّة التعبير، حيث كانت الأصوات خجولة، أمّا اليوم فالجميع يصرّح بمواقفه، ويشتم في الصحافة وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ... لكنْما يهمّ هو ماذا تكتب، ومدى مسؤوليّتك عمّا تكتبه، إذ الكتابة هي العمل الفنيّ الذي ستواجه به التاريخ والأجيال القادمة، وليس عبارة ترميها هنا، أو رأياً تدلي به لتتناقله وسائل الإعلام ليومين، أو شتيمة تلقي بها هناك، فتمحى بمصالحة أو تسقط بالتقادم. الشجاعة في الكتابة هي أن تعيد تفكيك الواقع، وتركّبه من جديد بحسّ جماليّ لا تغيّب فيه أيّ نصف للحقيقة، ولا شكّ في أنّ الحرب تحرّر، إنّها تحرّر كلّاً من اللّغة والفكرة من الادعاءات التي ينثرها الآخر ونمثل ما تنثر السكاكر فوق رؤوس المدعويين في الأعراس الشعبيّة، وتحرّر من سطوة العرف والتاريخ، ومن استبداد الجغرافيا، ومن المحظورات كلّها التي يجدها الكاتب، لحظة الحقيقة، ليست أكثر من أوهام، وذلك مهما اعتقد قبلها بتحرّره، إذ ستوصله تلك التجارب القاسية إلى عوالم من الحريّة في الكتابة لم يكن يفكّر بوجودها أصلاً، أليست الحرب مرادفاً للموت، والموت حالة الحريّة المطلقة!
ضمن هذا الشرط التاريخيّ كتبت نصّين روائيين "سجّاد عجمي" عام 2012/ منشورات ضفاف –بيروت والاختلاف- الجزائر، و"سماء قريبة من بيتنا" 2015/ منشورات ضفاف –بيروت ومجاز- عمّان والاختلاف- الجزائر. استعرت في "سجّاد عجمي" التاريخ، لأحكي عن أصل الصراعات، وتشابهها، وتشابكها، وأثرها في يوميّات الناس الآمنين الذين يحبّون الحياة والفنّ والعمل، فتنقلب حياتهم بسبب رغبات مريضة لبضعة أفراد لديهم ميول سلطويّة عنيفة. ذهبت فيها إلى القرن الثالث الهجريّ، واخترت الجغرافيا التي أحبّ أن أكتب عنها، وأعرّف العال مبها، الرقّة مدينتي الباسلة، والتي هي بؤرة الأحداث مثلما صيّرها قدر مستعار ودخيل بؤرةً لصراع وقائعيّ.
لكنّ رواية واحدة لا تكفي لتحكي عن الخراب الذي حاصر تاريخي الشخصيّ، فكتبت رواية ثانية "سماء قريبة من بيتنا" لأحمي طفولتي، وذاكرتي، وعائلتي، ومدينتي! ولأنّني لم أتعلّم شيئأ يمكن أن يقدّم لي الحماية سوى الكتابة، فلم أكفّ عن تحويل الأشياء كلّها إلى لغة، ذرعت فيها العالم في هذا النصّ الذي تتقاسم فضاءه سورية والأردن وفلسطين والعراق، وبلاد أخرى في أوربّا وأميركا وآسيا وإفريقيّا.
بعد أن يزهد العالم بنشرات الأخبار، ويصمت المحلّلون السياسيّون، وتخور قوى المتصارعين، وتنكشف هشاشة الحوارات والتحالفات والاصطفافات، لن يبقى غير هذا الذي كتبناه ليمنح الناس طريقة تجعلهم أكثر شجاعة على الغفران.
د. شهلا العجيلي: روائيّة، وأكاديميّة، أستاذة الأدب العربيّ الحديث في الجامعة الأميركيّة في مادبا. لها في الرواية “عين الهرّ” الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية 2009، و”سجّاد عجميّ”، و”سماءٌ قريبة من بيتنا”.