ألمانيا والحرب على غزة... وقصة زيارة ضمن وفد إعلامي عربي إلى برلين
هاجمت ناشطة ألمانية إسرائيلية، بشدة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، بسبب استضافة 17 صحافيا من دول عربية، كنت ضمنهم، لحضور جلسات حوار مع مسؤولين في عدة مؤسسات ألمانية رسمية ومدنية وصحافية، تمحورت حول سياسة ألمانيا تجاه الحرب على غزة. الناشطة اعتبرت أن هؤلاء الصحافيين « يكرهون إسرائيل » واستنكرت على وزارة الخارجية توجيه الدعوة لهم. كنت ضمن صحافيين من فلسطين، الأردن، السعودية، الإمارات، تونس، موريتانيا، الجزائر، سلطنة عمان، قطر، ومصر، فيما لم تتمكن صحافية من لبنان من السفر إلى برلين بسبب الحرب.
حين قرأ زميل صحافي من فلسطين هذا التهجم بدا سعيدا، وقال « الآن يمكنني أن أعلن في رام الله، حيث أقيم، أنني كنت في زيارة إلى ألمانيا، لأنني خشيت أن تتم مهاجمتي بسبب سفري إلى بلد يشارك في تزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح لقتل المدنيين الفلسطينيين… فقد أتينا إلى هنا لإسماع صوتنا ». أكثر من مرة كرر الصحافيون المشاركون في الزيارة أنهم لم يجرؤوا على إعلان سفرهم إلى ألمانيا بدعوة من الخارجية الألمانية مخافة مهاجمتهم عبر مواقع التواصل وفي اللقاءات، ولكن بعد الانتقادات الحادة التي ووجهت بها الزيارة، فقد رفع الحرج. وقد وصل الأمر بالناشطة الإسرائيلية إلى حد مخاطبة وزيرة الخارجية الألمانية بالقول « يمكنك أيضا أن تستدعي النازيين الجدد ». وقد ردت وزيرة الخارجية في حوار صحافي قائلة « لو كنت أحاور فقط من يتفقون معي في الرأي لكان هذا خطأ كبيرا في عملي ». فما قصة هذه الزيارة؟
حين تواصل معي القسم الإعلامي في السفارة الألمانية بالرباط، مقترحا أن أشارك في زيارة وفد صحافي عربي إلى ألمانيا، كان تصور الزيارة وأهدافها واضحة منذ البداية: ألمانيا تواجه انتقادات حادة في العالم العربي حول سياستها الداعمة لإسرائيل في الحرب على غزة، وهناك رغبة لديها في سماع أصوات الصحافيين العرب من جهة، وتوضيح خلفيات الموقف الألماني من جهة ثانية، وإظهار أن هذا الموقف ليس حوله إجماع حتى في ألمانيا، خاصة مع ارتفاع عدد الضحايا الفلسطينيين في هذه الحرب العدوانية المدمرة، وتراجع سمعة ألمانيا عربيا.
كان الجو مشحونا منذ اللقاء الأول في مقر وزارة الخارجية في برلين، مع موظفين كبار. الصحافيون خاصة من فلسطين والأردن، الذين يعيشون أقرب إلى المنطقة المشتعلة، كانوا يشعرون أكثر بسلبية الموقف الألماني: ألمانيا تبعث أسلحة إلى إسرائيل، وقطعت المساعدات عن المنظمات الإنسانية الفلسطينية، وكذا أوقفت برامج الدعم والشراكة مع الجمعيات والمؤسسات التي تعمل في فلسطين، كما أن ألمانيا رفضت وقف إطلاق النار. يقول صحافي من المنطقة « توصلت الجمعيات برسالة من السفارة الألمانية تخبرنا فيها أنه لن يكون هناك أي دعم إذا كان لكم علاقة بحركة حماس، أو إذا كانت الجمعية تعرف أشخاصا من حماس ». صحافي آخر تحدث بأسف عن زيارة للمستشار الألماني على متن طائرة عسكرية إلى إسرائيل. المشهد سيزداد توترا حين أظهر صحافي شريط فيديو من هاتفه أمام مسؤولي الخارجية يظهر عناصر من الشرطة الألمانية وهم يلاحقون طفلا عمره 10 سنوات، بينما كان الطفل يحمل علم فلسطين ويشارك في مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين: « هل هكذا تتعامل ألمانيا مع حرية التظاهر والتعبير؟ » تساءل الصحافي مستنكرا. علامات الغضب بدت على وجه مسؤول ألماني لدرجة أنه قاطع الصحافي ورد بنرفزة واضحة، « لا تطلب مني التعليق هكذا على فيديوهات »، وبعد فترة غادر المسؤول الاجتماع قبل انتهائه. لكن الحوار تواصل. الرد على شريط فيديو الطفل، كان هو أن القوانين في ألمانيا تمنع استعمال عبارات معادية للسامية في المظاهرات، ولكن إذا تبين أن الشرطة قامت بتجاوزات فإنه يمكن محاسبتها طبقا للقانون. مفهوم معاداة السامية هنا يستعمل بشكل واسع لقمع أي رأي ينتقد سياسة إسرائيل.
يتفادى المسؤولون الألمان الحديث عن تزويدهم لإسرائيل بالسلاح، ولكن أحدهم قلل من ذلك معتبرا أنها مجرد مسدسات. لكن العبارة التي تتكرر هنا هي: « نحن ملتزمون بالدفاع عن حق إسرائيل في الوجود »، ولكن أيضا فإن ألمانيا « لعبت دورا كبيرا في تسهيل وصول المساعدات إلى الفلسطينيين »، وأنها تميز بين حركة حماس والشعب الفلسطيني، كما أنها تميز بين شعب إسرائيل الذي تلتزم بحمايته، وبين الحكومة المتطرفة التي يقودها بنيامين نتنياهو. يتساءل الصحافيون: هل تبعث ألمانيا مساعدات إنسانية من جهة وقنابل وأسلحة من جهة أخرى يقتل بها الشعب الفلسطيني؟ جميع الصحافيين العرب الذين تدخلوا في اللقاء تحدثوا عن ازدواجية المعايير بالنسبة للغرب عموما، فألمانيا وقفت إلى جانب أوكرانيا ضد العدوان الروسي، وقدمت أسلحة للحكومة الأوكرانية، ولكنها بالمقابل فإنها تدعم دولة تعتبرها الأمم المتحدة دولة احتلال، كما أن القضية إنسانية أولا وقبل كل شيء، حيث يعيش شعب أعزل تحت رحمة جيش مدجج بالسلاح منذ عشرات السنين دون أن يتمكن من أن تكون له دولة.
أثيرت تساؤلات عما إذا كان في خلفية الموقف الغربي، تمييز بين البشر الذين يواجهون المآسي، فالإنسان الأوكراني بالنسبة لألمانيا له قيمة آدمية أعلى من الإنسان الفلسطيني. أيضا ما مصداقية الحديث عن حقوق الإنسان والدفاع عن حقوق المرأة والطفل في وقت يقتل فيه أطفال ونساء غزة يوميا بدعم غربي. يرد الألمان، أن هجوم حماس على إسرائيل وقتلها عددا كبيرا من اليهود أحدث صدمة كبيرة داخل ألمانيا التي تلتزم بحماية اليهود، وأنه ليس هناك اتفاق في ألمانيا مع الحكومة المتطرفة التي يقودها بنيامين نتنياهو في سياستها الحالية…
انتهت جلسة الحوار المتوتر ولكنها استمرت على الهامش على مائدة الغذاء… خلاصة اللقاءات الهامشية يفهم منها التالي: أولا، ألمانيا تعيش حالة ارتباك بخصوص موقفها من تطورات الحرب، وهي تسعى إلى تغيير سياستها بعد ارتفاع عدد الضحايا أمام سياسة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وغير واضحة الأفق، ثانيا، ألمانيا ليست لها سياسة خاصة تجاه الصراع، وهي فقط تتبع السياسة الأمريكية والبريطانية، فيما يتعلق بتوفير الدعم الكامل لإسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، فهل تستطيع تغيير سياستها على ضوء التطورات القائمة؟