أقليات أم مواطنون؟
كنت في بيروت قبل بضعة أيام، حيث لمست قلقا متزايدا من قبل المسيحيين هناك تجاه تهجير المسيحيين في الموصل من قبل "داعش"، ما عزز شعورا متناميا بأن هناك استهدافا لمجمل الوجود المسيحي في المنطقة، بل لمجمل أوجه التنوع الديني والثقافي التي عرفه العالم العربي لقرون طويلة. ما أقلقني أن هناك تيارا مسيحيا في لبنان بات يطالب علنا بحماية دولية للمسيحيين في بلادهم العربية، بدل أن ينتظر هذه الحماية من دولته ودستوره وقوانينه.
لا يعتقد أحد أن تهجير المسيحيين حالة منعزلة تمس طائفة معينة ولا تتعداها لتمس المجتمع بأسره. ولا يتصور أحد أن طلب الحماية الأجنبية تصرف شاذ يمارسه البعض دون الكل. من المؤسف أننا وصلنا حالة من التشرذم في مجتمعاتنا العربية، بتنا معها جميعا، مسلمين ومسيحيين، مدانين بمثل هذه التصرفات التي تغلّب الولاءات الفرعية على الولاء للوطن، وتحتمي وراء الهويات الفرعية معتقدة أنها وحدها القادرة على تحصيل الحقوق التي تعجز الدولة عن إتيانها.
جميعنا مسيحيو الموصل، وجميعنا مهددون بأخطار قد تأتي من "داعش" كما قد تأتي من غيرها، إن بقينا نسمح لثقافة تتغنى بالهويات الفرعية، وترى الحقيقة وكأنها حكر على ما نؤمن به دون غيرنا؛ ننهش لحمنا بأسناننا حتى يتمكن منا أضعف الناس. من هي "داعش" لتعكس قرونا من العيش المشترك، لو لم نسمح لها نحن، مسيحيين ومسلمين، بالامتداد في بيئة تشعر بالتهميش والغبن وانتفاء سيادة القانون على الجميع؟ في كل مرة نسمح لهوياتنا الفرعية بأن تسيطر على عقولنا وقلوبنا، نخلق "داعش" جديدة، ثم نندم حين لا ينفع الندم.
ضمن هذه النظرة، فإن الكتابة عن مسيحيي الموصل ليس موضوعا طائفيا، وإنما تعبير عما يمكن أن تؤول إليه الأمور في كل مرة نسمح فيها باستهداف مجموعة من الناس لمجرد آرائها أو ثقافتها. وبالتالي، يصبح هذا الموضوع هما وطنيا يجب أن يعني الجميع، بغض النظر عن المعتقد السياسي أو المذهبي.
يخطئ المسيحيون في العالم العربي إن تصرفوا كأقلية مرعوبة، لأنه بغض النظر عما إذا كانت نسبتهم من السكان خمسة أو عشرة أو ثلاثين بالمائة، فإن مواطنتهم هي الضمان لحصولهم على كامل حقوقهم، على قدر المساواة التامة مع أي مجموعة أخرى؛ وإن العمل لترجمة ذلك على الأرض شأن وطني، يتحمل مسؤوليته الجميع.
لا يحتاج المسيحيون في هذه البقعة إلى ريتشارد قلب الأسد جديد؛ هم كما كانوا دوما جزءا لا يتجزأ من تاريخ وحضارة ولغة هذه الأرض، لم يخرجوا منها ولن يخرجوا.
إن الرد الحاسم على أمثال "داعش" يكمن في التمسك بالمواطنة من قبل الجميع، والعمل من أجلها لضمان حقوق فئات المجتمع كافة بغض النظر عن أعدادها. وقتها نقول لداعش ما قاله محمود درويش "أيها المارون بين الكلمات العابرة احملوا أسماءكم وانصرفوا. منكم السيف ومنا دمنا، منكم الفولاذ والنار ومنا لحمنا، فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا".
الغد