موسيقى من غزة... غناء تحت النار
تنبت أرض فلسطين بالغناء والموسيقى كما تنبت بالزعتر والزيتون. وغناؤها، يمثل جانباً مهماً من تاريخها وذاكرة شعبها، وتمييز هويتها العريقة القديمة، فكثير من أغنياتها الشعبية الفلكلورية أقدم من نشأة الكيان الغاصب. لكنها - ورغم توالي المحن - لم تتوقف لحظة عن استزراع الفن، واستنبات الموسيقى.
من واصف جوهرية إلى رَوحي الخماش، ومن يحيى اللبابيدي إلى سيمون شاهين. كما كان المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عازفاً ومنظّراً موسيقيّاً من طراز رفيع. عرفه العالم بكتابه الأشهر "الاستشراق"، الذي طغى على كتب ثلاثة لم تنل نفس الشهرة: "متتاليات موسيقية"، و"المتشابهات والمتناقضات.. استكشافات في الموسيقى والمجتمع"، و"الأسلوب الأخير.. الموسيقى والأدب ضد التيار".
وفي هذه الأيام، قد تبدو غزة أرضاً للنار والدمار، للحرب والسلاح والاشتباك. هكذا تتجلّى لمن ينحبس في اللحظة الآنية، أو يترك وعاء ذاكرته لتملأه نشرات الأخبار بمشاهد الدماء والأشلاء. لكن الغناء ينبت في غزة كما تنبت الزهور العطرية، التي كانت تُصدر إلى أوروبا لصناعة أفخر العطور. تحصد غزة الغناء الجميل، من نايف أبو عياش إلى محمد عساف، ومن "ستي إلها توب وشال" إلى "طلت عند هبوب الريح".
من فيلم "الهدية" لفرح نابلسي (نتفليكس)
سينما ودراما
عن الوعي الأول بفلسطين: الأدب والغناء ثم السينما بأنواعها
"صول" و"وتر" و"دواوين"
يزدحم المشهد الغنائي الغزّي المعاصر بعشرات المطربين والملحنين والعازفين، وبكثير من الفرق الغنائية التي قدمت فنها في الداخل والخارج. يشغل الغناء للقضية الفلسطينية جانباً كبيراً مما تقدمه هذه الفرق، لكنها لا تقتصر على هذا النوع من "الغناء المقاوم". يغنّي الغزيون للحب والجمال، وللأمهات والجدات، وللأفراح والأعياد.
ولعل فرقة "صول" تمثل نموذجاً واضحاً للاتجاهات الغنائية الغزية التي تجمع بين الأنماط الحداثية، وبين إحياء التراث الفلسطيني، وأيضاً الغناء بكثافة لنصرة القضية الفلسطينية. واشتهرت الفرقة بأسلوب متميز في إنتاج الفيديو كليب بأبسط الإمكانات. ومثلاً، أعادت الفرقة غناء عملين شهيرين للمطرب والملحن المصري الشيخ إمام عيسى، هما: "أناديكم"، و"يا فلسطينية"، لكنها اختارت أن تصوّر الأغنيتين بين الأبنية التي هدمها القصف الإسرائيلي على بيوت القطاع، ما أعطى الكلمات وقعاً مؤثراً على المشاهد.
تأسست فرقة "صول" عام 2012، وضمت أربعة شبان وفتاة، وواجهت كثيراً من العقبات المتمثلة في ضعف الإمكانات، وندرة الرعاة، بل وحتى شح الآلات الموسيقية أو ارتفاع ثمنها. لكن بكثير من المثابرة، بدأت الفرقة تقف على قدميها، وعام 2016، افتتحت معهداً موسيقياً باسم "سيد درويش" لتدريب الهواة ورعاية المواهب، لا سيما من الأطفال.
اتسعت شهرة الفرقة في القطاع، ومنه إلى المهرجانات الموسيقية الدولية، فشاركت في مهرجان "جرش" في الأردن، ومهرجان "أرابيسك" الدولي في مدينة مونبلييه الفرنسية، كما قدمت عروضاً في بروكسل وبرلين. أعادت الفرقة توزيع عشرات الأغنيات الفلسطينية، وقدمتها عبر برنامج "وصلة" الذي تم تصويره في مناطق مختلفة من قطاع غزة، ويعتبر أعضاؤها أن ما تقدمه "صول" يظهر للعالم الوجه الحقيقي لغزة، وللنضال الفلسطيني.
وخلال السنوات القليلة الماضية، اشتهرت في قطاع غزة فرقة "وتر" بنمط أكثر حداثة، وأقرب إلى الأشكال الغنائية الرائجة بين الشباب. أصدرت الفرقة ألبومها الأول بعنوان "غريب هنا" عام 2015، ثم تلاه الألبوم الثاني عام 2019 بعنوان "30 ألف شغلة"، وكلا الألبومين من إنتاج مركز غزة للثقافة والفنون. وتعتبر "وتر" أول فرقة أندرغراوند تنشأ في غزة، وتتسم موسيقاها بالمزج بين أشكال متنوعة للبوب والروك. كما شاركت الفرقة عام 2020 في فعاليات عيد الموسيقى، الذي نظمته القنصلية الفرنسية العامة والمركز الثقافي الفرنسي في غزة.
في عام 2016، منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرقة "دواوين" من الخروج من غزة إلى القدس للمشاركة في مهرجان فلسطين الدولي، بإحياء فعالية موسيقية على مسرح "الحكواتي". وجاء رد فعل الفرقة مثيراً للدهشة والانتباه، ولافتاً للصحافة والإعلام، فقد أقام أعضاء الفرقة حفلاً موسيقياً أمام معبر إيريز، وغنى أعضاؤها لمدة ساعتين، بعدما وضعوا أمامهم كراسي خالية، كتبوا عليها عبارة "جمهور القدس".
وقال مؤسس الفرقة، عادل عبد الرحمن، إن الجهات الحكوميّة في القطاع، بما فيها وزارة الثقافة والشرطة الفلسطينيّة، سهّلت لهم إقامة الفعاليّة. ووجهت الفرقة دعوات لمؤسسات حقوقية دولية ومحلية لحضور الحفل، تأكيداً على حق الفلسطينيين في التنقل والحركة من منظور فني، ودعوة لفك الحصار.
وبسبب المنع، أصدرت اللجنة التحضيرية لمهرجان فلسطين بياناً أكدت فيه أن "العروض في غزة تأتي بهدف العمل على كسر الحصار المفروض على القطاع ولتثبيت مكانه كجزء لا يتجزأ من فلسطين، وأن اختيار القدس لتغني فيها فرقة دواوين جاء للمساهمة في كسر العزلة، وخلق حالة من التفاعل الثقافي بين أبناء الشعب الفلسطيني في كل المناطق، وتحديداً تلك التي تقع تحت التهميش والحصار والعقاب الجماعي بإجراءات عسكرية أو سياسية".
ضمت فرقة "دواوين"، عند إنشائها، عشرات الأعضاء، واهتمت منذ انطلاقها أواخر عام 2015 بالموروث الغنائي الفلسطيني، الشعبي والثوري الذي مر بفترة تراجع. وفي مايو/أيار من عام 2017، أقامت الفرقة حفلاً غنائياً لصالح الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، الذين دخلوا في إضراب مفتوح عن الطعام، قاده عضو اللجنة المركزية لحركة فتح مروان البرغوثي، المعتقل منذ عام 2002.
أوركسترا غزة
يتعطش هواة الموسيقى في غزة إلى فرص التعلم، كي تصقل الهواية بالدراسة والتدريب، واكتساب مهارات العزف على آلة، أو إتقان قراءة النوتة الموسيقية. ويعد معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى (فرع غزة) من أهم مصادر التلقي الموسيقي في القطاع. والفرع امتداد لمدرسة غزة للموسيقى التي أنشئت عام 2008، ثم هدمت تحت قصف العدوان الإسرائيلي على القطاع في نفس العام. وبعد إعادة بنائها، نقلت ملكيتها إلى "معهد إدوارد سعيد".
في عام 2013، أنشأ المعهد "أوركسترا غزة" التي ضمت 40 طالباً وطالبة. ووفقاً للموقع الإلكتروني للمعهد، فإن الهدف من تأسيسها تمثل في "تطوير مهارات طلاب الموسيقى وقدراتهم، وتدريبهم على العرض أمام جمهور، وخلق حالة اهتمام جماهيري في غزة، وذلك من أجل خلق فرص مستدامة للموسيقيين الجدد. ويهتم معهد إدوارد سعيد للموسيقى بتمكين أوركسترا غزة والاستثمار فيها بسبب القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على حرية تنقل الفلسطينيين، من وإلى غزة، حيث تمنع طلاب غزة من المشاركة في الأوركسترات، مثل أوركسترا فلسطين للشباب والأوركسترا الوطنية الفلسطينية وأوركسترا المعهد".
يتدرب الطلاب في أوركسترا غزة على مختارات من الموسيقى الشرقية والغربية، ويتدربون على عدد من الآلات الموسيقية منها: العود، القانون، الكمان، التشيللو، الترمبت، الجيتار، البيانو، الأوكورديون، الفلوت، آلات الإيقاع. كما أطلق المعهد مشروع "موسيقانا" الذي يهدف إلى إنتاج نصوص ومواد سمعية ومرئية خصيصاً لخدمة معلّمي الموسيقى العربية وطلابها في ثلاثة مجالات: المقامات والتقاسيم الارتجالية، فرق التخت الشرقي، والإيقاع. يرى القائمون على المعهد في غزة أن رسالتهم في نشر الموسيقى تمثل جانباً مضيئاً في القطاع، وأن طلاب المعهد يمثلون صورة السلام والتسامح التي يحتاج الغزيون إلى نقلها إلى العالم.
في كل مرة تشتعل فيها الحرب على غزة، ينظر إليها العالم، فلا يرى إلا النار والدمار، فيظن أن من يعيشون في القطاع المحاصر قد سكتوا إلى الأبد، فإذا بالموسيقى تنبت من بين الأنقاض، لتهزم كل أعداء الحياة.