صندوق النقد الدولي والمساواة الجندرية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الطريق الذي لم يُسلك قط
في آب 2022، نشر صندوق النقد الدولي أول استراتيجية لتعميم مراعاة المنظور الجنساني جنبًا إلى جنب مع مجموعة من السياسات والممارسات التي يمكنها أن تؤثر على العمل مع الشركاء القِطريين الذين تخلفوا عن تحقيق الهدف 5 من أهداف التنمية المستدامة بشأن المساواة الجندرية. ما لم يذكره صندوق النقد الدولي هو آثار سياساته وبرامجه وقروضه المشروطة على "اقتصاد الرعاية" وعلى الخدمات العامة. هذا الإغفال مهم، فكما جادلت العديد من الاقتصاديات النسويات والنقابيين ونشطاء المجتمع المدني، فإن فرض أهداف الاقتصاد الكلي التقييدية بشكل مفرط للحد من الإنفاق العام يؤدي إلى تكاليف اقتصادية وسياسية وعمالية وحقوقية ملموسة، تتحملها النساء أكثر من الرجال. وتؤدي تدابير التقشف، جنبًا إلى جنب مع تدهور الخدمات العامة، إلى تفاقم ديناميات النوع الاجتماعي داخل الأسر والمجتمعات، مما يزيد عبئًا على أعباء النساء فيما يتعلق بأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر.
سياسات صندوق النقد الدولي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعمالة الإناث
ولو أخذنا مثال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث لعب صندوق النقد الدولي دورًا مهماً في تمويل البلدان المتوسطة الدخل غير المصدرة للنفط، فما سيتضح لنا هو الأثر السلبي لصندوق النقد الدولي في تعزيز المساواة الجندرية من خلال برامجه. في الواقع، تحتلّ المنطقة أدنى مستوى للمشاركة العمّالية للنساء في جميع أنحاء العالم، بنسبة 25% مخيبة للآمال وفقًا للبنك الدولي، أي ما يقارب نصف المتوسط العالمي. وفي حين دعا صندوق النقد الدولي كلاً من تونس ومصر إلى إشراك المرأة في الأنشطة المدرّة للدخل، فإن دعوته إلى وضع سياسات تعالج النقص الحاد والمسبب للشلل في فرص العمل اللائق بقيت مهملة بشكل لافت. ورغم أن الولاية الأساسية لصندوق النقد الدولي لا تشمل تحسين ظروف العمل في القطاع الخاص، إلا أن الافتقار إلى العمل اللائق يعود في جزء منه إلى عدم وجود ضغط حكومي على القطاع الخاص لكي يفرضها بداخله.
تنعكس ديناميات عدم المساواة الجندرية المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في انتشار الأعراف الاجتماعية التمييزية. فمن ناحية، تجعل هذه المعايير النمطية أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر تقريباً من مسؤولية المرأة، وهي أعمال غالباً ما يتم تجاهلها وتهميشها تماماً. من ناحية أخرى، تساهم هذه المعايير في الفصل المعني، حيث تجعل الرعاية المدفوعة الأجر قطاعاً مخصصاً للنساء إلى حد كبير. إلى جانب التقصير الممنهج في الاستثمار في الخدمات العامة – ممارسة تتماشى مع الأجندة النيوليبرالية – فقد أدت الأعراف الاجتماعية الراسخة إلى زيادة الضغط على النساء للقيام بالأعمال غير المأجورة. ونتيجة للديناميات المشار إليها أعلاه، فقد صارت النساء يدفعن إلى العمل غير النظامي، أو العمل في ظروف هشة أو البطالة؛ الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على أمنهنّ الاقتصادي، ويعيق قدرتهن على تحقيق الاستقلال المادي والأخذ بزمام حياتهن.
إن أوجه القصور الكبيرة في توفير ظروف عمل لائقة داخل القطاع الخاص، إلى جانب عدم توافر وسائل نقل عام آمنة وميسورة التكلفة، وانتشار بيئات العمل غير الآمنة، ومحدودية الوصول (أو الافتقار التام) إلى أنظمة رعاية الطفل الوطنية، تزيد من تفاقم التحديات التي تواجهها النساء. نتيجة لذلك، فقد صرن يسعين بشكل متزايد إلى العمل في القطاع العام، الذي استهدفته الإجراءات التقليصية المرتبطة بتدابير التقشف على مستوى الاقتصاد الكلي، وخطط خفض الإنفاق العام التي روج لها صندوق النقد الدولي.
إن فشل هذه المؤسسات في الاعتراف بأفعالها ومعالجتها العواقب السلبية التي ترتبت عليها، يعدّ تصويراً واضحاً لغياب المساءلة، والافتقار إلى التأمل الذاتي، وغياب الترابط ما بين الإجراءات وتطبيقها في العالم. إن العملية الدقيقة والمدمرة التي تستفيد من العمل غير المأجور تحوّل النساء إلى"ممتصات صدمات لاإرادية" لأنه يتوقع منهن أن يعوّضوا انسحاب الدولة من تقديم الخدمات العامة، عبر توليهن الأعمال البدنية المرتبطة بها. ذلك يديم استضعاف النساء، ويمثل خطوة إلى الوراء للبشرية جمعاء.
الرعاية الصحية والرعاية غير المدفوعة: دراسة حالة
إنها صدفة لطيفة أن صندوق النقد الدولي قد صرّح فجأة بالتزامه بقضية المساواة الجندرية – وإن كان متأخراً بعقدين من الزمن – في وقت كشفت فيه جائحة كوفيد-19 بشكل صارخ عن أوجه القصور في أنظمة الرعاية الصحية على مستوى العالم، وألقت الضوء على الآثار السلبية والهيكلية للسياسات النيوليبرالية على هذه الأنظمة. السخرية سلاح خائبي الأمل.
إن ما نجحت به جائحة كوفيد-19 هو تمثيل عواقب سنوات من نقص الاستثمار المتعمّد في خدمات الرعاية الصحية العامة بأقسى الطرق، والتي دفع إلى تطبيقها المؤيدون المخلصون للأجندة النيوليبرالية، لا سيما داخل المؤسسات المالية الدولية بقيادة صندوق النقد الدولي. لقد دعا صندوق النقد الدولي باستمرار إلى خصخصة الخدمات العامة بحجة ضرورة تعزيز الإنتاجية والكفاءة والجودة، متجاهلاً محدودية الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الجيدة لدى جزء كبير من سكان العالم، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، وجعل الوصول إلى الخدمات حقاً يمتلكه "النخبة" فقط. مثلاً، في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اضطر الكثيرون إلى الاعتماد على المنظمات غير الحكومية والجمعيات "الخيرية" لتلقي الرعاية الصحية، وحُرم آخرون من حق التأمين الصحي في العمل، الأمرُ الذي ضاعف عبء تقديم الرعاية على النساء داخل الأسرة، حيث غالبًا ما يكلّفن بمهمة تقديم الرعاية للمحتاجين.
ومن المثير للاهتمام أنّه وفق منظمة الصحة العالمية، تبلغ نسبة النساء من العاملين في قطاعي الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية 70%، مما يعكس واقع تخصيص وظائف الرعاية غير مدفوعة الأجر للنساء في الغالب. ومن المفارقة أن الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي، والتي تهدف إلى خفض نفقات الخدمات العامة، تميز بشكل مباشر ضد القوى العاملة النسائية في هذه القطاعات من خلال تطبيع الأجور المنخفضة وفرض ظروف عمل صعبة. تزيد هذه الإجراءات من عبء أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر على النساء في حياتهن الخاصة، مما يمنحهن وقتاً أقل لممارسة الأنشطة المدرّة للدخل، وبالتالي يعيق جهودهن نحو الاستقلال المالي، ويترك لهن وقتاً أقل للانخراط في الممارسات السياسية والترفيهية والروحية التي تساهم في النمو الشخصي والمجتمعي.
علاوة على ذلك، أضافت جائحة كوفيد-19 طبقة أخرى إلى الشعور بالضيق المنتشر في العصر الحديث، الذي يسببّه فقر الوقت. يشير مفهوم "فقر الوقت" إلى ضيق الوقت "للعيش"، والذي يعاني منه الأفراد المثقلون بأعباء العمل غير المأجور – وغالبيتهن نساء – بالإضافة إلى مسؤوليات إعالة الأسرة، مما يترك للمرء قليلاً من الوقت للتنفس. تتأثر هذه العملية بشكل مباشر بالسياسات المطروحة وديناميات السوق، فضلاً عن التأثير الواضح للأعراف الاجتماعية والقوالب النمطية الجندرية التي تملي تقسيم العمل داخل الأسر وضمن المجتمعات. وغني عن الذِّكر أن المرأة في كل المجتمعات تقريباً، هي التي تقوم بأعباء الرعاية، الأمرُ الذي غالباً ما يعتبر أمراً مفروغاً منه.
لماذا تفشل استراتيجية النوع الاجتماعي في صندوق النقد الدولي
في الختام، في حين أن الاستراتيجية الجنسانية "الجديدة" التي أعلن عنها صندوق النقد الدولي تفسح المجال لفتح نقاشات جديدة حول المساواة الجندرية داخل البلدان المتلقية – بالرغم مما لهذه الفكرة من طابع استعماري جديد – إلا أنه يبدو من الواضح أن هذه الاستراتيجية تقصّر في الاعتراف بمدى سلبية أثر العمليات الأساسية التي ينفذها صندوق النقد الدولي على أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، والتي تؤديها النساء في الغالب، فضلاً عن المهن النسوبة للنساء. إن تقديم حفنة من البرامج المتخصصة لتقديم التعويضات لبعض النساء من خلال شبكات أمان محددة وموجّهة ليس الطريق نحو تحقيق تغييرات شاملة وهيكلية ومستدامة وعميقة الجذور.
هند حمدان ناشطة نسوية وداعية للتضامن ومحبّة للبحر. وهي متخصصة في الشؤون الجندرية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولديها أكثر من 12 عامًا من الخبرة المهنية. وهي أيضًا مدربة تعمل على المبادئ النسوية.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تمثل بالضرورة وجهات نظر مؤسسة فريدريش إيبرت