من الإعلام التقليدي إلى البودكاست: تحول ثقافي في استهلاك المعلومات بين الشباب في هذا العصر الرقمي

الرابط المختصر

في زمن يتسارع فيه إيقاع الحياة وتتشابك فيه التقنيات مع تفاصيل يومنا، نشأت ثقافة جديدة تتسم بالمرونة والتفاعلية في العالم الرقمي وترافق الشباب في كل لحظة من يومهم. إنها ثقافة البودكاست، التي تحوّلت من مجرد وسيلة للاستماع إلى حوارات والأفكار إلى منصة حيوية تعكس تنوع وثراء العصر الحديث، في هذا الفضاء الصوتي اللامحدود، تمنح الشباب الحرية في انتقاء محتواهم، والتفاعل مع ما يهمهم، واكتشاف عوالم جديدة بعيداً عن القيود التقليدية للإعلام، البودكاست ليست مجرد صوت في الأثير؛ إنها نبض جيل يبحث عن حريته في التعبير، وعن منصته الخاصة لصناعة المعرفة والثقافة

 

محمد، طالب جامعي (22 سنة)، يشارك "صوت شبابي" تجربته مع البودكاست قائلاً: "أجد أن البودكاست يمنحني حرية اختيار الوقت والمكان المناسبين للاستماع. يمكنني الوصول إلى المحتوى الذي يهمني في أي وقت، وهذا ما لا توفره وسائل الإعلام التقليدية، بالإضافة إلى أن المحتوى على هذه المنصات يكون غالباً أقرب إلى حياتي اليومية وأكثر تفاعلاً." هذا الإحساس بالحرية والتحكم الشخصي يعكس رغبة جيل الشباب في الابتعاد عن القيود التقليدية المرتبطة بمواعيد العرض والإعلام التقليدي، وهذا ما أشارت له الإعلامية الأردنية المتخصصة والمدربة على فنون البودكاست هبه جوهر في حديثها ل"صوت شبابي" عن ملاءمة المحتوى الصوتي لعصر السرعة حيث قالت "العالم اليوم سريع ويعاني من العديد من المعطلات مثل الازدحام وصفوف الانتظار مما يجعل البودكاست مناسبًا للشباب لأنه يمكنهم الاستماع إليه أثناء تنقلاتهم أو أثناء استخدام وسائل النقل العامة"

وفي حديثها حول ان البودكاست وسيلة للتواصل ومشاركة الأفكار تعكس هبه جوهر جانبًا مهمًا من كيفية استفادة الشباب من هذه الوسيلة الإعلامية في العصر الحديث، من حيث تمكين البودكاست للأفراد من التواصل ومشاركة الأفكار والمحتوى الثقافي بأساليب تتناسب مع أنماط حياتهم السريعة قائله "البودكاست بمفهوم المحتوى الصوتي والمسموع له انعكاس مهم. حيث ان هناك الكثير من المحتوى الصوتي والمسموع يتحدث عن كتب أو يقرأ الكتب لمن لا يحب القراءة حتى يتمكن من الاستماع للكتاب الذي يرغب به من خلال هذا المحتوى الصوتي وهناك عدد من البرامج التي غالباً ما يطغى عليها الطابع الوثائقي أو التوثيقي"، مما يوفر معلومات وقصص مختلفة تساهم في تعزيز المعرفة بدلاً من الترفيه فقط"

 

 كنان، صانع محتوى بودكاست ثقافي (27سنه)، يقول ل"صوت شبابي": "ما دفعني للبدء في صناعة محتوى بودكاست هو رغبتي في مشاركة أفكاري وتجربتي مع العالم بطريقة تفاعلية، كنت أبحث عن منصة تمكنني من التواصل مع الآخرين ومناقشة المواضيع التي تهمني، وكانت البودكاست أفضل وسيلة لتحقيق ذلك."

من جانبها، توضح الدكتورة روان الجيوسي المديرة التنفيذية لمدرج لريادة الإعلام الرقمي، أن التحول نحو الإعلام الرقمي والبودكاست هو جزء من تطور استهلاك المعلومات في العصر الحديث. "رافقت هذه التغييرات سهولة الوصول إلى المحتوى الإعلامي عبر الهاتف أو التطبيقات في أي وقت يناسب الجمهور، مما يجعلها أكثر جاذبية للشباب الذين يبحثون عن الحرية في استهلاك المعلومات بعيدًا عن مواعيد البث التقليدية."

 

الهام، طالبة فنون (20 سنه)، فتتحدث عن كيفية اختيارها للمحتوى والقنوات التي تتابعها قائلة: "أختار المحتوى بناءً على اهتماماتي الشخصية وأتابع القنوات التي أجدها تعبر عن أفكاري أو تقدم شيئًا جديدًا، عادةً ما أبحث عن المراجعات والتقييمات قبل أن أقرر متابعة قناة معينة، كما أني أتابع المؤثرين الذين أشعر أنهم يتمتعون بمصداقية وأفكار مشابهة لأفكاري" هذا السلوك يعكس أهمية المصداقية والتوافق الفكري عند الشباب في اختيار المحتوى الرقمي، وهو ما يتفق معه كنان، حيث يضيف: "أحرص دائمًا على التفاعل مع جمهوري من خلال الرد على التعليقات والأسئلة، سواء كان ذلك أثناء البث المباشر أو بعد نشر الحلقة، أستخدم أيضًا وسائل التواصل الاجتماعي لبناء مجتمع حول المحتوى الذي أقدمه، من خلال فتح نقاشات ومشاركة قصص المتابعين وآرائهم."

 

وهذا ما سلطت الضوء عليه اجابه نادين (23 سنة) عند سؤالها عن فرصة التعبير والمشاركة أثناء وبعد متابعة حلقات البودكاست التي تهمها لتقول ل"صوت شبابي": نعم، أحرص دائماً على التفاعل مع صناع المحتوى، سواء من خلال التعليقات أو المشاركة في التصويتات والاستفتاءات، هذا التفاعل يجعلني أشعر بأن لي صوتاً وأنني جزء من المجتمع الذي يخلقه هذا المحتوى، وأحياناً يؤثر في توجيه المحتوى المستقبلي الذي يقدمه هؤلاء الصنّاع."

وهنا تظهر أهمية التفاعل الشخصي مع صناع المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي، تشرح  نادين تعبر كيف أن التفاعل، من خلال التعليقات والتصويتات، يمنحها شعوراً بالانتماء والقدرة على التأثير في المحتوى الذي يُنتج، هذا النوع من التفاعل يعزز من إحساس الشباب بأنهم ليسوا مجرد متلقين للمحتوى، بل أنهم يساهمون في تشكيله وتوجيهه، ومن خلال هذا التفاعل، يشعرون بأن لديهم صوتًا فعالاً في المجتمع الرقمي الذي يشاركون فيه.

تشرح هبة جوهر كيف أن منصات البودكاست والتواصل الاجتماعي تتيح للشباب فرصة أن يكونوا هم المرسلين للمادة الإعلامية، وبالتالي يشعرون بأنهم يعكسون أنفسهم بشكل أوضح من خلال هذه المنصات مقارنة بالإعلام التقليدي"هذه المنصات تتيح للشباب إنتاج المحتوى والتفاعل معه بشكل مباشر، مما يجعلهم جزءًا من المجتمع الرقمي الذي يساهمون في تشكيله، وهو ما يفسر انجذابهم نحو هذه الأدوات الحديثة."

 

أما فيما يتعلق بتأثير هذه المنصات على الشباب، يقول أحمد (سنه24): "البودكاست يؤثر بشكل كبير على آرائي واهتماماتي، أحيانًا أتعرف على أفكار جديدة من خلال النقاشات التي أسمعها، وأحيانًا أخرى أشعر أنني أصبحت أكثر اطلاعًا على مواضيع معينة، هذه المنصات تفتح لي أبوابًا على عوالم لم أكن أعرفها من قبل حيث أصبحت تمثل مصدرًا رئيسيًا للمعلومات والثقافة الشخصية "

يعتبر كنان هذا التأثير الواسع لمحتوى البودكاست مسؤولية يجب أن يتحملها ويدركها صانع المحتوى حيث أنهم

 يسهمون بشكل كبير في تشكيل وتوجيه اهتمامات وثقافة الشباب ويؤكد " أرى أن لدي مسؤولية كبيرة في تقديم محتوى هادف يسهم في توعية الشباب وإلهامهم، من خلال اختيار المواضيع والنقاشات، أسعى لأن أكون جزءاً من توجيه اهتماماتهم نحو ما هو مفيد ويسهم في تطوير تفكيرهم وثقافتهم  أدرك أن لدي تأثيراً، واحرص على أن يكون هذا التأثير إيجابياً."

إن تزايد اعتماد الشباب على الإنترنت كمصدر رئيسي للمحتوى، يعزز انجذابهم للبودكاست كجزء من استخدامهم الأوسع للوسائط الرقمية التي تجمع بين تفاعل الإعلام الجديد وتوفير المعلومات التقليدية بطريقة مريحة ومتاحة بحسب هبه جوهر حيث تؤكد " اليوم الشباب ذهبوا الى الإعلام الجديد بكافة اشكاله و ابتعدوا عن الاعلام التقليدي ويمكن من خلال ملاحظة سريعة للشباب اليوم نجد انهم حتى في ما يتعلق بالإعلام التقليدي يحصلوا على المعلومة من خلال منصات الإعلام التقليدي على منصات التواصل الاجتماعي  أو مواقعها عبر الانترنت بشكل عام  فجزء من انجذاب الشباب للبودكاست هو جزء من انجذابهم للأنترنت بشكل عام "

 

هذا التأثير على الثقافة الشخصية يتجلى في تنوع المواضيع التي يمكن للشباب الوصول إليها بسهولة من خلال البودكاست، كما تشير الدكتورة روان الجيوسي إلى أن "وجود العديد من المواد الإعلامية متعددة الوسائط وسهلة الوصول، المقدمة بطريقة بسيطة ومليئة بالتشويق، يساهم في تكوين مجتمعات رقمية صغيرة تهتم بموضوعات معينة وتتفاعل معها بشكل مستمر."

من جانب آخر يشير كنان الى التحديات التي يواجهها صناع المحتوى، موضحا "أكبر تحدي يواجه هو الحفاظ على تدفق مستمر من الأفكار الجديدة والمحتوى الذي يبقى الجمهور مهتمًا. يتطلب ذلك الكثير من البحث والتخطيط المسبق لضمان تقديم شيء مختلف ومفيد في كل حلقة." هذا التحدي يتجلى بشكل أكبر مع المنافسة الشديدة التي يواجهها صناع المحتوى على هذه المنصات، وهو ما يتطلب منهم الابتكار المستمر.

ولكن من وجه نظر أكثر احترافية تلفت هبة جوهر الشباب الذي يسعى لصناعة محتوى بودكاست إلى أنه وبالرغم من إن هذه المنصات تقدم فرصًا كبيرة للشباب والمجتمع، لكنها تأتي أيضًا بتحديات اوسع، تقول هبة جوهر “إذا أردنا إنتاج محتوى ينتشر ويصل لجمهور كبير، فإن التحدي الأساسي هو التسويق والتمويل. برغم من أن هذه المنصات تتيح إنتاج المحتوى بأقل التكاليف الممكنة، إلا أن المنافسة عالية جدًا، وإذا أردنا أن ننتج مواد أكثر احترافية فهذا يتطلب منا تمويل أكبر، خاصة من الناحية الفنية والتقنية."

 

ختامًا، تشير الدكتورة روان الجيوسي أن البودكاست أصبح جزءًا من ثقافة الشباب الرقمية، "هناك جيل ينتمي لعالم البودكاست كما أن هناك جيلًا أقدم لا يزال يحب الصحيفة الورقية، بالإضافة إلى فئة لا تزال تتابع أخبار الثامنة على التلفزيون الرسمي، هذه الديناميكية بين الأجيال تعكس التحول الكبير في كيفية استهلاك المعلومات في العصر الرقمي، حيث أصبح البودكاست وسيلة فعالة لنقل المعرفة والثقافة بشكل يتناسب مع اهتمامات الشباب وأسلوب حياتهم."

بهذا، يمكن القول إن البودكاست ليس مجرد موضة عابرة، بل هو اتجاه طويل الأمد في استهلاك المحتوى، يساهم في تشكيل ثقافة جديدة للشباب، حيث يجمع بين الحرية، التفاعل، والقدرة على الوصول إلى المحتوى في أي وقت وفي أي مكان، مما يجعله واحدًا من أكثر وسائل الإعلام تأثيرًا في العصر الرقمي.

أضف تعليقك