تحديات الصحة النفسية في زمن الأزمات: كيف نحافظ على توازننا؟
يواجه الأفراد في أي مجتمع العديد من المواقف الطارئة أو الأحداث الصادمة التي تحيط بهم، منها ما يستطيعون مواجهتها والتعامل معها وتجاوزها أو التكيف معها بطرق واقعية وسليمة، ومنها ما يصعب عليهم تجاوزها أو التعامل معها، لما تشكله من تغير جوهري مفاجئ، يصيب مساحة اعتادوا على أنها تحت سيطرتهم وقدراتهم الخاصة. تتمثل هذه المواقف الطارئة في الأزمات الاقتصادية أو الكوارث الطبيعية أو الحروب، التي تتسبب في العديد من المشاعر السلبية وما يرافقها من صدمات نفسية تفوق قدرة الأفراد على تحملها أو حتى الاعتراف بها، فيعيشون ضغوطات نفسية متنوعة الشدة، ربما تتطور إلى اضطرابات نفسية بعد الصدمة.
"عمار، 21 عامًا، شاب سوري عاش تجربة الحرب واللجوء يقول : 'الحرب دمرت حياتي وحياة عائلتي. كنا نعيش في حلب، ولكن بسبب القصف المستمر والدمار، اضطررنا للهرب إلى الأردن. العيش في مخيم اللاجئين كان صعبًا للغاية. كنت أشعر دائمًا بالخوف والقلق من المستقبل. الوضع النفسي كان سيئًا جدًا، ولم أكن أستطيع النوم لليالي طويلة بسبب الكوابيس والذكريات المرعبة. أصبحت أعاني من اضطرابات النوم ومشاكل نفسية أخرى.'" تعليق عمار يعكس المعاناة العميقة التي يعيشها الناجون من الحروب، حيث إن التجارب القاسية تترك آثارًا نفسية لا تُمحى بسهولة.
بينما تظهر تجربه يوسف، 23 عامًا، شاب سوري، خليط من مشاعر القلق والخوف من الغد، عدم اليقين حول المستقبل حيث أوضح قائلاً: 'الحرب في سوريا كانت تجربة مؤلمة جدًا بالنسبة لي. عندما لجأنا إلى الأردن، كان علينا البدء من الصفر. العيش في المخيم كان قاسيًا، ولم يكن لدينا الموارد الكافية للعيش بشكل مريح. تأثرت نفسيتي بشكل كبير بسبب القلق المستمر حول المستقبل والمصير. كنت أشعر بالعجز وعدم القدرة على تحقيق أحلامي وطموحاتي. أصبحت أعاني من نوبات قلق.'"
يشير تقرير العالمي عن الصحة النفسية لمنظمة الصحة العالمية لعام 2023 إلى أن معظم الأشخاص المتضررين من حالات الطوارئ سيصابون بالضيق النفسي. وفي حين يتحسن هذا الوضع لمعظم الناس مع مرور الوقت، قد تستمر آثاره على الصحة النفسية بالنسبة للآخرين. يقدر أن شخصًا واحدًا من بين كل خمسة أشخاص عاشوا في بيئات متضررة من النزاعات في العشر سنوات الماضية مصاب باضطراب نفسي. كما تبين أن الاضطرابات النفسية شائعة جدًا بين الناجين من الكوارث الطبيعية وتزيد مشاهدة ومتابعة كارثة ما من مشكلة استخدام مواد الإدمان، لا سيما بين الأشخاص الذين يعانون سابقًا من مشكلات، إضافة إلى المستجيبين في الخطوط الأولى مثل مقدمي رعاية الطوارئ والعاملين في الإغاثة المعرضين بصفة خاصة إلى مشكلات صحية نفسية على الأمدين القصير والطويل على حد سواء.
كما تشير التقديرات إلى أن 84 مليون شخص في جميع أنحاء العالم قد نزحوا قسرًا خلال عام 2021، ويشمل هؤلاء اللاجئين وطالبي اللجوء والنازحين داخليًا الذين اضطروا قسرًا إلى النزوح من منازلهم بسبب النزاع. تنتشر اعتلالات الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق واضطراب الكرب التالي للصدمات والذهان أكثر بين اللاجئين مقارنة بالسكان المضيفين.
يمتد أذى هذه الأزمات وخاصة الحروب إلى من هم خلف الشاشات، فمشاهدة صور وفيديوهات العنف والقتل والاستماع إلى قصص الضحايا المؤلمة تشكل ضغوطًا نفسية كبيرة على من يتابعون هذه الأخبار. تكرار التعرض يوميًا لمآسي الحرب يؤثر سلبًا على صحة الفرد النفسية. من الممكن أن تتسبب الأخبار السلبية، سواء التي اختبرناها وقت انتشار وباء كوفيد-19، أو التي نعيشها حاليًا مع أخبار الحرب على غزة أو أخبار الأوضاع الاقتصادية المقلقة وغير المستقرة، في أن تؤثر على الوضع النفسي، خاصة مع الشعور بالعجز وعدم السيطرة والخوف من المجهول. فرط تصفح الأخبار السلبية العالمية، خاصة الحروب والكوارث التي تمس أعداد كبيرة من البشر، قد يؤدي إلى الغمر بمشاعر قوية، مثل الإحباط الشديد والعجز والغضب وفقدان القدرة على التحكم في الانفعالات والاكتئاب والحزن، والقلق والانفصال عن المجتمع، وعدم القدرة على أداء المهام اليومية.
وفي تقرير نشرته جامعة هارفارد تبين أن متابعة الصراعات والحروب تُظهر ما يُعرف بـ "قلق الحرب" وهو الخوف من الحرب النووية ودمار العالم بسبب الحروب. يظهر هذا في شكل أعراض تشمل الأعراض الجسدية للقلق (الغثيان، الصداع، الدوخة)، نوبات الهلع، صعوبة في النوم، كوابيس متكررة، وتنميل أو خدر الأطراف، مع الميل إلى متابعة هذه الأخبار دون القدرة على التوقف، خاصة مع أحداث الحرب على غزة لقرب قضيتها من الوجدان العربي والتأثر الشديد بأحداثها.
هذا ما انعكس بوضوح فيما شاركتنا إياه ليلى، 20 عامًا، شابة أردنية: 'أتابع باستمرار أحداث غزة. الأخبار والصور التي أراها تؤثر عليّ نفسيًا بشكل كبير. أشعر بالحزن والألم على الناس الذين يعانون هناك. أحيانًا أشعر بالعجز وعدم القدرة على فعل أي شيء لمساعدتهم. هذه الأحداث تزيد من شعوري بالقلق والتوتر، وأحيانًا تؤثر على نومي وتجعلني أستيقظ في منتصف الليل.'"
هذا وقد شاركتنا ندى، 19 عامًا، شابة أردنية، تجربتها قائله: 'أحداث غزة تؤثر على نفسيتي بشكل كبير. أحيانًا أشعر بأن العالم مكان قاسٍ وغير عادل. أتابع الأخبار وأشعر بالحزن والخوف على الناس هناك. هذه الأحداث تجعلني أكثر تقديرًا للحياة التي أعيشها، ولكنها تزرع في نفسي شعورًا دائمًا بالقلق والتوتر، مما أدى إلى مشاكل في النوم وأعراض اكتئاب.'"
مشاكل النوم وأعراض الاكتئاب التي تعاني منها ندى هي ردود فعل طبيعية للإجهاد النفسي الناتج عن التعرض المستمر لأخبار الصراعات والكوارث. هذا الأمر يوضح أهمية العناية بالصحة النفسية في مثل هذه الأوقات الصعبة، حيث يمكن أن تتحول مشاعر القلق والتوتر إلى مشاكل نفسية أعمق إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.
وأوضح الأخصائي النفسي الدكتور إسماعيل الشيخ أن الأزمات العالمية والمحلية، حتى وإن لم تكن تؤثر علينا بشكل مباشر، يمكن أن تؤثر بشكل كبير على صحتنا النفسية. القلق والخوف من الغد، عدم اليقين حول المستقبل، والتأثيرات النفسية للأحداث المؤلمة، كلها تسهم في زيادة مستويات التوتر والقلق لدى الأفراد. وأضاف أن الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق قد تتفاقم في ظل الأوقات الصعبة. للتعامل مع هذه التأثيرات، يُنصح بالبحث عن مصادر دعم اجتماعي، والحفاظ على روتين يومي مستقر، والتعبير عن المشاعر بصراحة، والحفاظ على تواصل صحي مع الأحباء.
وأكد الدكتور الشيخ على أهمية الروتين اليومي في الحفاظ على التوازن النفسي خلال الأزمات، موضحًا أن الروتين اليومي يساعد في تعزيز الشعور بالأمان والاستقرار. يمكن أن يشمل الروتين ممارسة الرياضة، وتخصيص وقت للراحة والاسترخاء، والحفاظ على نمط نوم منتظم. لبناء روتين صحي، يجب أن يكون متوازنًا بين النشاط والاسترخاء، ويتماشى مع احتياجات الشخص وظروفه الحالية.
وأشار إلى أن الصمود النفسي يعني القدرة على التكيف مع التحديات والضغوط دون أن تتأثر الصحة النفسية بشكل كبير. يمكن تعزيز الصمود النفسي عبر ممارسة الصحة النفسية الإيجابية، مثل التفكير الإيجابي، وتعلم استراتيجيات التحكم في العواطف، وتعزيز الشعور بالاستقلالية والقدرة على التكيف. كما يمكن استخدام تقنيات مثل التنفس العميق، والتأمل، واليوغا، والاسترخاء التدريجي والتفكير الإيجابي للمساعدة في التخفيف من التوتر.
وختم الدكتور الشيخ بنصائحه للأهل لمساعدة أبنائهم على التعامل مع التحديات النفسية في أوقات الأزمات، حيث أكد على أهمية الاستماع للأطفال بفهم ودعمهم عاطفياً، وتوفير بيئة آمنة تسمح لهم بالتعبير عن مشاعرهم بحرية، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي اللازم. وأوصى بتعزيز روتين النوم والتغذية الصحية، وتشجيع الأطفال على ممارسة النشاط البدني والاسترخاء.
باستخدام هذه الاستراتيجيات، يمكن للأفراد والأسر تقليل التأثيرات السلبية للأزمات على صحتهم النفسية وزيادة مرونتهم في مواجهة التحديات.