الكشّافة: تجربة شبابية تتجاوز التطوّع
"تردّدتُ في بداية الأمر؛ لأن الانعكاس الصحيح للمجموعات الكشفية لم يكن واضحًا أمامي، كنت أعتقد أن الكشاف مجرد شخص يرتدي زيًّا معيًّنا، ينظف الساحات ويخرج إذا كانت هناك مناسبة ليصفق ويغني، ولكن عندما انخرطنا فيها بدايةً لمساعدة صديقنا الكشاف والذي كان بحاجةٍ إلى دعم لوجستي، بدأنا نشعر أن العمل الكشفي يلامس احتياجاتنا كشباب فعليًا " هكذا يروي القائد في مجموعة القدس الكشفية محمد طالب أبو هاشم قصته مع الانضمام إلى المجتمع الكشفي.
" بل اكتشفنا أن العمل الكشفي يعتمد على أساسيات ومنهج وليس عملاً عشوائيًا، فانتسبنا للمجموعة وانتقلنا من مرحلة الجوالة إلى القيادة، واستمررنا حتى هذه اللحظة منذ ٢٥ عامًا"، يضيف ابو هاشم لـ"صوت شبابي" معبرا عن فخره بانتمائه للحركة الكشفية، التي أسهمت في تشكيل شخصيته وشخصيات العديد من القادة الذين يعرفهم، مؤكدًا كفاءتها وأفضليتها في تحقيق التغيير الإيجابي، حيث يكتسب الكشافون مهارات متقدمة تؤهلهم لخدمة الوطن بأعلى مستوى من الجاهزية والتفاني.
وتلعب المجموعات الكشفية دورًا حيويًا في تشكيل شخصية الشاب وبناء جيل واعٍ مميز وقادر على تحمل المسؤولية، بحسب أكثر من منتسب، بل أن البعض اصبح يعتبرها كجزء من تراث العائلة المعتاد، كما هو الحال مع قائد محمد شكيب (30 عامًا) والذي انضمّ لمجموعة خالد بن الوليد الكشفية عندما كان في الثّامنة من عمره.
يقول شكيب لـ"صوت شبابي" أنّ استمراره في الحركة الكشفيّة كفرد أولًا ثم كقائد لاحقًا كان مدفوعًا بالتأثير الكبير الذي تركته في حياته وحياة من حوله، والصّداقات التي كوّنها، فضلًا عن شعوره بالقدرة على إضفاء تأثير من خلال تطوّعه في هذا المكان.
المجموعات الكشفية الخاصة بالذكور تُقسم إلى مراحل متتالية حسب العمر، وتُخصص لكل مرحلة مهام تناسب قدرات الأفراد، تبدأ بمرحلة البراعم (3-7 أعوام)، ثم مرحلة الأشبال (7-11 عامًا)، تليها مرحلة الفتيان (11-14 عامًا)، ثم تأتي مرحلة المتقدم (14-17 عامًا)، إذ يبدأ الكشافون في تحمل مسؤوليات أكبر، وصولًا إلى مرحلة الجوال (من 17 عامًا حتى اجتياز المنهج). وأخيرًا، مرحلة القيادة حيث يتولى الكشاف مهام الإشراف، مستفيدًا من المهارات التي طورها سابقًا.
المبادئ الكشفية وبناء القيم
عندما ينضمّ الفرد إلى الحركة الكشفية، يتشبّع بمبادئها وتصبح جزءًا لا يتجزأ من يومه، ويؤكّد شكيب أنّ القيم والمبادئ التي علمته الكشافة إياها كثيرة، وأنه يمارسها ويطبقها باستمرار في كلّ أمور حياته.
تقوم الحركة الكشفية على ثلاثة مبادئ رئيسية تصاحب الفرد وهو شبل حتى يصبح قائدًا، أولها الواجب نحو الله، والذي يركز على الالتزامات المطلوبة من الفرد تجاه ربّه ودينه، ثانيها الواجب نحو الآخرين، والذي يشمل الالتزامات نحو الوطن والمجتمع، وثالثها الواجب نحو الذات، يتعلق بتطوير مهارات الفرد وتنمية مهاراته.
يقطع الفرد وعدًا بأداء واجبه نحو الله والوطن والملك، ومساعدة الآخرين، والالتزام بقانون الكشافة، والذي ينصّ على أن الكشاف يجب أن يكون صادقًا، مُخلصًا، نافعًا، وَدودًا، مهذبًا، رفيقًا، مطيعًا، باشًا، مُقتصدًا، ونظيفًا. هذه المبادئ تعكس الحبّ والانتماء للوطن، وتحفز الأفراد على تجاوز التحديات الشخصية ومواكبة الواقع، بحسب أبو هاشم
من جانبه يبيّن شكيب أنه حينما يتفاعل الكشّاف في حياته اليومية، يتذكر دائمًا أنه ملتزم بواجب رئيسي نحو الله، ويشعر بالمسؤولية تجاه الآخرين ومن حوله، وينخرط دائمًا مع المجتمع ويتطوع ويساعد، كما لا ينسى واجبه نحو ذاته بتطوير نفسه والاستمرار في التعلم والتدريب.
اكتساب المهارات من خلال الممارسة
عن شخصيّته يقول شكيب إنّ للحركة الكشفية الأثر الأكبر في تكوين ملامحها، من مهارات التواصل الاجتماعي، الحديث أمام الجمهور، والتفكير الإبداعي والنقدي، واحتواء المشاكل بأفضل طريقة ممكنة، مُرجعًا سبب ذلك إلى أنّ صُلب الحياة الكشفية وأهم مبادئها وهو التعلم بالممارسة، والعمل في الخلاء، وبالتالي، التعامل مع موارد محدودة وظروف صعبة لإيجاد الحلول الأمثل وتجاوز أي مشكلة.
لا توجد مهارة في الكشافة تُكتسب بشكل عابر أو عشوائي؛ وفقًا لأبو هاشم فإنّ المهارات الكشفية تندرج تحت مظلة شارات الهواية، حيث يمكن للفرد الذي لديه ميول للصحافة مثلا أن يحصل على شارة الصحفي وهو شبل في سن الثامنة، تبعًا لرغبته أو ترشيحًا من القائد، ويجب على الفرد الحصول على ثلاث شارات هواية لاكتساب المهارة واختبارها وفقًا لمعايير معينة، ويمكنه أيضًا الحصول على الشارة ذاتها مرة أخرى في الكشاف و الجوالة لكن بمستوى ومتطلبات أعلى، مما يسهم في صقل مهارات الشباب بطريقة تدرجيّة.
وحول نشاط الكشافة يُظهر أبو هاشم أنّه ليس مجرد نشاط عشوائي، بل منظم يُقسم إلى مجموعات إدارية، حيث يتعلم كل فرد كيفية التعامل ضمن طليعة مكوّنة من 6 إلى 8 أشخاص، تتنوع المهام فيها من السكرتير إلى العريف إلى أمين الصندوق، كلّ منها يعزز المهارات العملية في هذه المجالات، كمثال على ذلك، أحد الأفراد الذي بدأ كأمين صندوق في الكشّافة أصبح الآن محاسبًا متميزًا ورئيس قسم محاسبة، الأمر الذي يبرز تأثير الكشافة على أداء الأفراد في حياتهم المهنيّة.
وإذا نظرنا إلى أيّ فعالية نجد أنّ القائمين عليها يتولّون مهامًا معيّنة، في هذا الإطار يرى أبو هاشم أنّ هؤلاء الأفراد لا يعملون لاحقًا كموظفين عاديين، بل كعشاق لمهنتهم؛ فهناك من هاجر إلى الخارج، وكان دائمًا ما يعبّر عن ندمه لعدم التحاقه بالكشافة في شبابه؛ فكلما وجد شخصًا مميزًا في عمله يكتشف لاحقًا أنه كان كشافًا!
ولفت أبو هاشم أنّ الطريقة التي يتّبعونها في تعليم المهارات تختلف تمامًا عن الأساليب المدرسية التقليدية؛ فالكشافة تركّز على التعلم من خلال القدوة والممارسة والوعد والقانون.
خطوة نحو قيادةٍ أفضل
أوضح شكيب أن الحركة الكشفية تلعب دورًا كبيرًا في تطوير مهارات القيادة لدى الأفراد عبر نظامها الهرمي المبني على تسلسل قيادي واضح، بدءًا من قائد يقود مجموعة من الأفراد يشكّلون مجموعة من الطلائع ويقودهم أحد العرفاء من أبناء جيلهم، ثم تُمارَس تجربة القيادة بشكلٍ أبرز عند الانتقال للمرحلة الجامعية بعد الخضوع لمجموعة من التدريبات ومراقبة مشرفين أعلى رتبة، فيتعلم الفرد الطاعة والانضباط قبل أن يتحمل مسؤولية القيادة، من باب أنّه "إذا أردت أن تكون قائدًا ناجحًا، فعليك أولاً أن تكون جنديًا جيدًا".
وعن الهرمية في الحركة الكشفية قال شكيب إنّها تُساهم في صقل شخصية قائد متواضع يفهم احتياجات الأفراد المسؤول عنهم، ويعاملهم وكأنهم إخوته، وشدّد أن الكشّاف ينطلق إلى المجتمع متسلحًا بصفات القيادة، ومؤهلًا لخوض التحديات وتحفيز الآخرين من حوله.
عقبات أمام الكشّافة
فيما يتعلّق بأبرز التحديات التي تواجه الحركة الكشفية، كشف أبو هاشم أنّها تتجلى في عدم فهمها بشكل صحيح، سواء من قبل المنتسبين أو من المجتمع بشكل عام. وقال: "من الضروري أن يكون المنتسبون على دراية كاملة بأهداف الحركة الكشفية ومبادئها ومنهجها، إذ لا يمكن أن تُبنى مجموعة كشفية وتُدار بطريقة عشوائية؛ فهناك منهاج واضح ومتكامل تم تطويره من قبل خبراء على مستوى الوطن العربي، وهو مشروع ضخم يحقق نتائج ممتازة، لكنه يحتاج إلى فهم عميق للمبادئ والأسس المتبعة".
الدعم المالي يمثل إحدى المشكلات الكبيرة الأخرى كما صرّح أبو هاشم، فالعمل التطوعي لا يمتلك مصادر دخل منتظمة، وهذا يستوجب جهدًا ضخمًا استمرار النشاطات الكشفية.
وأضاف أن انشغال القادة والأفراد بالحياة اليومية يشكل عقبة مهمة أيضًا؛ فالحياة أصبحت أكثر تعقيدًا وصعوبة، ويتطلب الاستمرار في الأنشطة الكشفية جهدًا ووقتًا كبيرين، وهو ما قد يؤثر على جوانب أخرى من الحياة. لكنه شدد على إصرار الأفراد في الانخراط في العمل الكشفي عندما يدركون القيمة والفوائد التي يجنيها من هذه التجربة.
الكشافة ليست عائقًا بل بوابّة للنجاح
المجتمع ينظر إلى فترة "التوجيهي" على أنّها فترة ضغط ودراسة فقط، لكن كان لمحمد المحيسري (18 عامًا) من عشيرة الجوالة في مجموعة القدس الكشفية رأيٌ مختلف؛ إذ اعتبرها فترة عادية وقابلة لتنظيم الوقت، وأكّد أن نشاطه والتزامه باللقاءات الكشفية لم يؤثّرا سلبًا على تحصيله الدراسي، بل على العكس؛ حيث حصل على معدل 98 بالثانوية العامة، رغم قضائه جزءًا كبيرًا من وقته في الكشافة، مشيرًا إلى استغلاله ميزتها في تنمية وتطوير الذات، محققًا توازنًا إيجابيًا.
بدوره أفاد أبو هاشم أنّ الحركة الكشفية توفر منهاجًا شاملاً يهدف إلى تطوير الذات، يلبي جميع الجوانب ويعزز المهارات بشكل مباشر وسريع، لإعداد أفراد معتمدين على أنفسهم نافعين لغيرهم، راجيًا أن يظلّ هذا العلم -إن صحّ التعبير- موجودًا ومستمرًا.