القراءة والشباب في عصر التقنية
"أحياناً أبدأ بقراءة كتاب إلكتروني، لكن فجأة أجد نفسي أتابع "الستوريز"، وهذا يعزز قناعتي بأن الكتب الإلكترونية لا يمكن أن تحل مكان الكتب الورقية؛ فمن يفهم القراءة جيدًا يدرك قيمة الكتاب الورقي الذي يمكنك تصفحه بسهولة بمجرد تحريك يدك، على عكس النوع الإلكتروني الذي يصاحبه الكثير من المشوشات" هكذا تعبّر عائشة عمر (٢٣ سنة) عن تفضيلاتها بالقراءة في عصر التّقنية.
وتؤكّد لـ"صوت شبابي" أن القراءة في الماضي كانت أفضل من الانتشار الواسع للكتب الإلكترونية اليوم؛ لأننا كنّا عندما نرغب في قراءة كتاب نتوجه فورًا إلى المكتبة لاقتنائه، وهذا يدفعنا للتحرك والبحث عن الكتاب حتى نحصل عليه، وبمجرد رؤيته أمامنا نشعر بالحماس والرغبة في قراءته، دون فجوة زمنية كبيرة بين قرار قراءة الكتاب وبدء قراءته فعلًا، أما في حالة توفر الكتاب إلكترونيًا قد نقوم بتحميله لكن نعتمد على وجوده ونؤجل قراءته إلى أجلٍ غير مسمّى.
من جانبه يرى الدكتور يونس الشوابكة رئيس جمعيّة المكتبات الأردنية أن أنماط القراءة والتعلم لدى الشباب تتغير بشكل كبير بسبب تأثير التكنولوجيا، ويظهر هذا التأثير في نقطتين أساسيتين؛ الأولى هي التغير في وسائل القراءة، حيث بات أغلب الشباب اليوم يميلون إلى القراءة عبر الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية بدلاً من الكتب الورقية، والثانية تتعلق بالسرعة في الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت الذي يمثل مكتبة ضخمة مليئة بالمحتوى.
تراجع عادة القراءة بين الشباب
يوضح دكتور علم الاجتماع هشام العياصرة أنّ واقع القراءة بين الشباب في الوطن العربي متدنٍّ، سواء كانت ورقية أو إلكترونية، حيث يُقدّر معدل القراءة سنوياً في العالم العربي بربع صفحة، مقارنةً ببلدان أخرى يصل معدّل قراءتها إلى مئة كتاب سنويًا، هذا التراجع يدل على أن الشباب لا يميلون إلى القراءة بقدر ما ينبغي، وحتى قراءة الكتب المنهجية والجامعية لا تعد من المطالعة الذاتية، إذ إنها غالبًا ما تكون نتيجة للامتحانات وليس للتعلم الحر.
ومن خلال تجربته واحتكاكه بالشباب في نوادي القراءة، يلاحظ الكاتب هاشم غرايبة أنّ القراءة اليوم لا تشبه ما كانت عليه في السابق، ويشدّد أن هناك تراجع ملحوظ في القراءة التقليدية؛ حيث أصبح من النادر أن يجد شابًا يقرأ كتابًا كاملًا من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، ورغم أن المعارض لا تزال تبيع الكتب، والمطابع ما زالت تطبع، لكنّه يتساءل "هل الشباب الذين يشترون هذه الكتب يقرأونها بالفعل كما كان الحال في الماضي؟"
وينوّه غرايبة أن العديد من الشباب باتوا يعتمدون على قراءة ملخصات الكتب أو مقالات حولها بدلًا من قراءة الكتاب نفسه؛ فالمرجع الأول لأي معلومة يريد الشاب الاستفسار عنها اليوم هو جوجل، لدرجة أن البعض لا يكلف نفسه حتى بالتفكير إن كان يعرف الكاتب الفلاني أو لا، وبرأيه فإن هذه الملخصات لا تساهم في بناء ثقافة عميقة وحقيقية في عقول الشباب.
ويشير إلى أنّ المعرفة في هذا الجيل أصبحت متوسعة بشكل أفقي وليس عموديًا، بمعنى أن الشباب يتلقون معلومات كثيرة وسطحية دون بناء أفكار ناضجة على أساس قراءات متأنية وتجارب حياتية؛ فاليوم الصيدلي يكتفي بدوره كصيدلي، والطبيب يكتفي بتخصصه، والمهندس كذلك، في حين أن الثقافة العامة ضرورية لدعم وتطوير أي مجال علمي.
بدوره أكد العياصرة لـ"صوت شبابي" أنّ الاتجاه المتزايد نحو الملخصات والقراءات السريعة يعكس رغبة في الحصول على المعرفة السطحية دون التعمق في المصادر الحقيقية، ذاكرًا أنّ هذا النمط من القراءة لا يبني شخصية قوية ومعرفية، بل يجعل الشباب يعتمدون على الآخرين لتكوين أفكارهم.
الورق في مواجهة التكنولوجيا
حول الفائدة من توفر الكتب الإلكترونية قالت عائشة أنها "تتجلى في القراءة البحثية التي تتطلب نقاطًا أو اقتباساتٍ معينة، إذ يكون الوصول إليها إلكترونيًا أسرع وأكثر توفيرًا، خصوصًا إذا كان وجود الكتاب غير ضروري على المدى الطويل".
وتابعت أنّ بعض دور النشر لا تمتلك موزعين في بلدان مثل الأردن، ما يجعل من الصعب الوصول إلى كتب معيّنة، في هذه الحالة تساعد التكنولوجيا في الحصول على الكتب والاستفادة منها دون الحاجة إلى طلبها من دولة إلى أخرى أو انتظار معارض الكتب السنوية.
ويؤكد المرشد التربوي أ. حسن صباريني أنّ القراءة الإلكترونية جيدة لقراءة مقال أو نص قصير، لكن الاعتماد على الكتاب الإلكتروني بشكل كامل خاصة لقراءة الكتب الطويلة، قد يكون مضرًا للصحة، لذلك تبقى القراءة الورقية هي الأصل ولها طابعها الخاص الذي لا يمكن أن يعوضه أي شكل آخر.
من جانبه وضّح العياصرة إلى أنّ التقنية ساعدت في وصول الشباب إلى المصادر بأسعار معقولة وسهلت الوصول إلى الكتب، إلا أن الفائدة المرجوة من هذا التطور لم تُترجم إلى زيادة ملحوظة في القراءة العميقة، فكثير من الشباب يميلون إلى القراءة السريعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي غالبًا ما تقدم معلومات غير منهجية وغير كافية.
فالقراءة الرقمية مفيدة، إذا كانت تحقق الشروط من خلال الاعتماد على الكتب والروايات والمصادر العلمية الحقيقية والأبحاث المحكمة، بدلاً من المنشورات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي أو العالم الافتراضي الذي يتفاعل فيه الناس بتبادل الآراء، لذا يجب ضبط مفهوم القراءة الرقمية بحيث تُعتبر إلكترونية ولكن بمحتوى يعادل جودة الكتب الورقية.
وتابع العياصرة أنّ القراءة عملية منهجية تراكمية تحتاج إلى صبر ومتابعة، وليست عشوائية تؤثر بشكلٍ محدود، إذ لا يمكن أن تكون فعّالة ما لم يُبنَ عليها معرفيًا وسلوكيًا وعاطفيًا، لذا من الضروري أن تكون القراءة منهجية ومعتمدة أكثر على الكتب الورقية، وهذا لا يتعارض مع الاستفادة من التقنية في الحصول على الكتب الإلكترونية، إلا أنه لا ينبغي اعتبارها بديلاً كاملاً للكتاب الورقي.
ومع أن نوعي القراءة يهدفان إلى تحقيق النتائج ذاتها، إلا أن القراءة الرقمية بحسب العياصرة قد تعوق الإنسان في بعض الجوانب، مثل تدوين الملاحظات ووضع الإشارات والاستفهامات، مما يجعل من الصعب العودة لتلك الأفكار وإثارة التساؤلات لاحقًا، على النقيض في القراءة الورقية يمكن للشاب أن يمتلك هامشًا للتدوين، مما يسهل عليه تفصيل هذه الملاحظات لاحقًا.
توجيه الشباب نحو القراءة
يدعو الشوابكة إلى تنويع مواضيع المواد القرائية في المكتبات المدرسية والجامعية، حيث يجب أن تقدم مجموعة واسعة من الكتب التي تلبي اهتمامات الشباب المختلفة كلٌّ بحسب عمرهِ وجنسه، فمثلًا يميل الذكور اليافعين إلى قراءة الكتب التي تتحدث عن البطولات والرياضات، بينما تفضل الفتيات في العمر ذاته القصص العائلية والاجتماعية.
كما أكد على أهمية تعزيز محو الأمية الرقمية لدى الشباب، بتعليمهم على كيفية تقييم المحتوى عبر الإنترنت بشكل نقدي، هذا يعزز مهاراتهم القرائية ويمكّنهم من تمييز الأدب الجيد من غيره في مختلف المجالات.
ويقترح العياصرة إقامة مشروع وطني خاص بالقراءة، يتحمل مسؤوليته القطاعان العام والخاص، من خلال منصات وجهات رسمية معنية بالتعليم، مثل وزارة الثقافة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، ووزارة الشباب وغيرهم، وذلك عبر منتديات ثقافية وأنشطة تشجع على القراءة، بما في ذلك المسابقات والجلسات النقاشية حول الكتب.
ويشدد على أهمية التركيز على دور الشباب القارئ وإبرازهم كقدوة في المجتمع لإلهام المراهقين والشباب أمثالهم، والابتعاد عن التأثيرات السطحية للشباب المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أن تأثيرهم غالبًا ما يكون قائمًا على قراءات سطحية أو حتى غير موجودة.
أما بالنسبة لدور النشر، فإن ضرورة طباعة الكتب الورقية واضحة وملحّة، إذ تشير الإحصائيات إلى أن عدد الكتب التي تُنشر في العالم العربي أقل بنسبة 10% من تلك التي تُنشر في أمريكا، كما أفاد العياصرة.
أثر القراءة في تكوين الهويّة الشبابية
يؤكد صباريني أن للقراءة دور كبير في تشكيل وصقل شخصية الشاب، يتجلى في صنع الإنسان المثقف والمتحضر في مختلف مجالات الحياة، فالقارئ الجيد دائمًا ما يكون متحدثًا ومحاورًا لبقًا وشخصًا مهذبًا، ويلاحظ أنّ الشباب الذين يميلون إلى القراءة بعيدون كل البعد عن الانحرافات التي نعايشها اليوم، "الشاب الذي يقرأ بانتظام شاب محظوظ، لأنه يكتسب قيمة كبيرة تجعله متميزًا في محيطه".
في سياق متصل وضح العياصرة أن عادة القراءة تساهم في تطوير مهارات الشاب اللغوية وتعزيز القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل عقلاني، كما أنها تزود القارئ بتجارب وخبرات واسعة تجعله أكثر توازنًا وقدرة على مواجهة التحديات الحياتية.
وتابع أن "الشاب الذي يقرأ بانتظام يصبح أكثر ثقافةً وانتماءً لمجتمعه، وله تأثيره المميز على محيطه سواء في عمله أو حياته الاجتماعية، من الصعب أن يكون الشخص مثقفاً دون قراءة مستمرة، وهناك فرق واضح بين الأشخاص الذين يمتلكون شهادات أكاديمية وبين أولئك الذين يتعمقون في القراءة والمتابعة المستمرة للمستجدات".