يا ريت كل باشا باشا..!!
“لو أن خالد محادين كتب عن الحكومة ما كتبه عن مجلس النواب لقبّلت رأسه”.
هذه الكلمات لم يقلها دولة نادر الذهبي في لقاء مع وسيلة أو وسائل إعلام، ولم يقلها في افتتاح ندوة أو مؤتمر، ولم يقلها على مائدة غداء أو عشاء، لكنه قالها أمام الزملاء نقيب الصحفيين وأعضاء مجلس نقابتهم، وهي من هنا تدخل في باب دعم الصحافة وتحميل المجلس رسالة إلى كل الزملاء تقول باختصار أن النقد يعين من يوجه إليه على تحسين أدائه، وهذه مهمة الصحافة ومسؤولية كل عامل فيها، فالصحافي لا يحمل طبلة بين ركبتيه ولا يضع مزمارا بين شفتيه، حتى تكون مهمته الأولى والأخيرة التطبيل والتزمير، وعندما بدأت عملي في حضرة جلالة المغفور له الملك الحسين عام 1989، طلب مني أن أواصل الكتابة في صحيفة “الرأي”، مؤكدا أن وجودي قريبا منه سيجعلني أكثر وأوسع إطلاعا مما يساعدني هذا الأمر وذاك، وكانت تلك المكرمة النبيلة من جلالته من حظي بها قلمي، إذ كان محظورا على من سبقني ومن خلفني في موقعي، الكتابة في الصحافة المحلية والعربية.
وعندما عملت قبل ذلك مستشارا لوزير الإعلام الأسبق الأستاذ عدنان أبوعودة مطلع الثمانينات، كنت أكتب في “الرأي”، وذات مرة سألني “أبو السعيد” أنت تعمل مستشارا لوزير الإعلام فكيف تكتب كل هذا ؟ فأجبته “يا معالي الأخ،العبد لله مستشارك من الساعة الثامنة صباحا وحتى الثانية ظهرا، وبعد انتهاء الدوام فإنني مواطن أردني له كامل الحق في التعبير عن رأيه وموقفه “ .
ابتسم معاليه وواصلت الكتابة، وأذكر أن “ أبا السعيد “ نقل الي مرات قليلة ما يشبه العتاب من دولة الأخ والعزيز مضر بدران، فأوضح لمعاليه خلفيات المقال موضع العتاب، فأتلقى من دولة الرئيس مكالمة هاتفية يشكرني خلالها ويجد لي العذر ويعطيني تحياته .
ما قاله الباشا نادر الذهبي عن القضية التي رفعها ضدي معالي رئيس مجلس النواب، أعطاني ثقة بنفسي اعتز بها، وأضاء أمامي ضوءا أخضر كي أمارس أداء رسالتي من موقعي كصاحب قلم وليس كحامل بلطة .
فما أكتبه هدفه – كما قال الرئيس – إزالة الغبار عن أداء وتشجيع صاحبه على تحسين هذا الأداء، ولأن ليس كل باشا باشا، أعتبر شهادة رئيس الوزراء وقفة كريمة له إلى جانب القضاء في المحكمة والى جانبي حيث أحمل له ما يعرف من الاحترام والاعزار والتقدير، وأمس وفي لقائه مع نقابتي كان يضع اسمه وتوقيعه إلى جانب آلاف المواطنين وهم يعبرون عن رأيهم على موقع خبرني، أو عبر المكالمات الهاتفية أو من خلال رسائلهم الالكترونية .
لم أعتد أن أنافق فالمسؤول الذي يؤدي واجبه لا يحتاج إلى نفاق مني أو من غيري، يمكن أن يرق ما يتلقاه من ضميره ومواطنته فالمسؤول ليس فنانا استعراضيا يفرحه تصفيق الجمهور، لأنه ليس مطربا أو ممثلا أو راقصا بل حامل رسالة الخدمة العامة والتي تميزه عن الفاسدين والمرتشين والخائنين لقسم الولاء للملك والوطن والشعب .
ومن الأمور الباعثة على الحزن أننا كمواطنين يجب ان نتحدث عن أفراد مسؤولين أو ممثلين لنا، محدودين يمارسون الغش والسلب والنهب والتقصير والفساد والإفساد، لكننا وبكل أسف نتحدث الآن عن أفراد محدودين، عن رجال شرفاء يتولون المسؤولية العامة ويغادرونها بعد ان يتركوا وراءهم صورتهم الزاهية التي يفترض أن يقتدي بها من يأتي بعده، بحيث يظل مقعد المسؤول المغادر يفوح بالعطر والبخور والمواطنة الصادقة.
لم استغرب كلمات دولة الرئيس نادر الذهبي، فهذا رجل مؤمن إيمانا حقيقيا يحرسه من كل ما يمكن أن يسيء إلى شخصه وإلى قناعاته وإلى حرصه التام على أداء واجبه في كل موقع يحل فيه، فله مني محبتي التي عرفها وخبرها وتقديري الخاص حيث صار رئيسا لهيئة الدفاع ليس عني وإنما عن حرية الرأي والتعبير وهذا الذي أراده ويريده جلالة الملك – حفظه الله - .
ذات مرة كتبت أن الصحافة هي دائرة المخابرات الأولى في بلدنا، وفي كل بلد يحترم حرية التعبير، فهي وحدها التي تقتحم الأبواب المغلقة وتسلط ضوءها على كل زاوية معتمة، وتضع أمام المسؤول تقارير يومية عن أداء موظفيه ومؤسساته ودوائره التي ضمن مسؤولياته، ولا اعتقد أن كل نقد سواء للسلطة التنفيذية أو التشريعية يمكن أن يسيء إلى أي منهما، خاصة وأن أغلب هذا النقد يأتي من حرص على وطننا ونظامنا ومواطنينا، وعلى من لا يستطيع تحمل هذا النقد المحفّز على تحسين الأداء – كما قال الباشا الحقيقي نادر الذهبي – أن يغادر موقعه ويجلس بين زوجه وأبنائه ويمارس معه لعبة الباصرة، ويكتفي بقمع هذه الأسرة بدل أن يتفرغ لقمع الآخرين في معارك خاسرة قبل أن تبدأ.











































