"وداعاً يزن": أطفالنا مع ثالوث الجوع والحرمان والظلم

الرابط المختصر

مرة أخرى يعود الزميل موفق كمال في تقريره "الاستثنائي" (في "الغد"، الجمعة) إلى التأكيد، ضمناً، على ضرورة إبقاء ملف "مقتل" الطفل يزن، ابن الخمس سنوات، مفتوحاً، ويطرح الأسئلة الصارخة علينا جميعاً.

 

التقرير يرسم صورة متكاملة، تشهد لها صورٌ فوتوغرافية، لحياة يزن البائسة المرعبة، القصيرة، التي تغيب عنها أبسط شروط الحياة الطبيعية، على بعد كيلو مترات من جسر عبدون المعلّق، ومقاهي ومطاعم عمّان الغربية و(فلاّتها) الفاخرة!

في تفاصيل الصورة، منزل مقفر، تحتل الرطوبة مساحات واسعة منه، وللعفن الكلمة الفصل، لا يرى الشمس ولا تراه، بينما كان يزن يحتفظ في ركن بائس في المنزل بـ"فرس خشبي" متهالك، يستنطق فيه "طفلنا" ما يمكن من زوايا طفولته الدفينة! أمّا أخوه فمساره اليومي نحو وسط البلد لأداء وظيفة محزنة، بدلاً من حافلة المدرسة، وربما بلا مدرسة أيضاً!

ودّع يزن حياته، بعد مسلسل معاناة وتعذيب، لكن هنالك آلاف الأطفال الأردنيين ما يزالون في أسر المعاناة وضياع الحقوق، ونحن نشيح البصر عنهم، حكومة وإعلاماً ومثقفين نتساجل في "دم الذبابة بينما دم الحسين مُراق". أمّا مؤسسات مجتمع مدني فمشغول أغلبها بتحقيق الأرباح السريعة الخرافية.

هل أبالغ بخطورة "الأزمة"، كما سيتنطّع بعضهم بالقول؟!..

كم منّا يصطدم بهؤلاء الأطفال "يسيحون" حول الإشارات الضوئية، يبيعون الفتات، ليسدوا رمقهم، تحت لهيب شمس الصيف الحارقة، ونحن مع أطفالنا في السيارات المكيّفة؟!

وكم منّا يتهرّب من فتيات صغيرات على أبواب المقاهي والمطاعم الدافئة، والبرد القارس يأكل من أطرافهن، ليساعدن أسرهن المعوزة؟ فهل توقف بعضكم، قليلاً، ليستمع إلى بعضٍ من تلك الحكايات، على ألسنة أطفالٍ صغار يعرفون تماماً معنى الجوع والبرد والظلم؟!

من يعملون، حقّاً، في المجال الخيري- الإنساني يدركون مدى انتشار الفقر في مجتمعنا. شخصياً لي تجربة قصيرة سابقة، ما تزال فيها صورة لقرابة سبعة أطفال لحظة الإفطار في رمضان تلاحقني، وهم يجتمعون حول طبقٍ شبه خاوٍ إلاّ من قطعة بائسة من الطعام، ما زلت إلى اليوم أحاول التعرّف على ملامحها بذاكرتي، فلا أستطيع.

ثمة جريمة ترتكب بالقفز عن معاناة هؤلاء الأطفال.

لا أريد أن أكرر، هنا، مسؤولية "البرنامج الاقتصادي" الذي أطاح بقسط كبير من الطبقة الوسطى، وخلّف وراءه شريحة واسعة تكابد الحرمان الاجتماعي والعجز عن ملاحقة شروط الحياة الكريمة، من دون أن يوازن المعنيون بين مخرجاته والتوازن الاجتماعي المطلوب، ما أدّى بدوره إلى تراجع ملموس للقيم الخُلُقية والاجتماعية.

هؤلاء الأطفال هم، أيضاً، ضحية غياب أدوار المجتمع المدني الحقيقية وعجز المؤسسات الاجتماعية وضعف السياسات والاهتمامات الرسمية عن حماية حقوق الطفولة في بناء بيئة آمنة صحية، تؤمّن لهم رعايةً واهتماماً إنسانياً يجنّبهم معاناة لا يستحقونها، وتضمن تربية سليمة، لا تخلق منهم مستقبلاً جيلاً حانقاً منحرفاً!

قصة "مقتل يزن" تدفع اليوم إلى التفكير جدِّيّاً وسريعاً في بناء "منظومة متكاملة" من العمل المجتمعي والخيري والإنساني والنقابي، بشراكة حكومية ومدنية وأهلية، تستند إلى "قاعدة متينة" دقيقة من البيانات، وتوزيع الأدوار والمهمات، وتحديد المسؤوليات.

مهمتنا الأولى، اليوم، في إعلان الحرب على غوائل الحرمان والجوع وجيوب الفقر، وتوفير الموارد اللازمة، والوصول لهؤلاء الأطفال في أسرهم وكذلك في بناء مؤسسات رعاية صحية حيوية متكاملة لمن يفتقدون الحياة الأسرية المقبولة، كما كانت حال يزن، الذي قتله الإهمال الرسمي والمجتمعي لهذا الملف الخطر والحساس والمؤلم في ثنايا حياتنا اليومية.

يزن، لن ننساك، فقد أوغلت في قلوبنا جرحاً آخر، يضاعف شعورنا بالعار الذي يظللنا لتقصيرنا بحق "المسحوقين" من "إخواننا في الوطن"!