هل يترك مشروع "اللامركزية" الرفوف إلى أرض الواقع؟
مع دخول عدة طهاة على خط الدعوة الملكية الأخيرة لإحياء ملف مشروعات "الأقاليم" لتعزيز اللامركزية في صناعة القرار المحلي التنموي, بات من الضروري على حكومة الباشا نادر الذهبي تحديد موقفها من النموذج الأنسب كي تحول دون حرق طبخة على النار منذ .2005
فعلى الرئيس أن يعلن بملء الفم إذا كانت هذه الخطة جزءا من برنامج وطني شامل للإصلاح السياسي الذي أنحرف عن مساره منذ عام 1993 بعد أربع سنوات ذهبية من الدمقرطة أم هي مجرد استحضار لفكرة قديمة/جديدة للالتفاف على ضغوط داخلية وخارجية تطالب بتعزيز مفاهيم الحاكمية الرشيدة.
محاولات تفسير واجتهادات رجالات الدولة لم تتوقف, وهي حق مشروع لهم, منذ ترأس الملك عبد الله الثاني جلسة لمجلس الوزراء المعدّل الأحد الماضي ليؤكد أمامه ضرورة المضي قدما في مشروع اللامركزية, ويستبعد وجود "إصلاح سياسي من دون إصلاح اقتصادي".
الذهبي وعد الملك بأن الحكومة سترصد الأموال اللازمة لكل محافظة في موازنة 2010 لتنفيذ الرؤية الإستراتيجية لمشروع الأقاليم بهدف تسريع عملية اتخاذ القرارات التنموية "بشكل لا مركزي عبر الأطر القائمة" من خلال المجلسين التنفيذي والاستشاري. وهناك توقعّّات بأن تدرج مسودة المشروع ضمن أجندة الدورة البرلمانية الاستثنائية هذا الصيف.
تأكيدات الذهبي العلنية تحمي حكومته التي لم تفعل شيئا ملموسا منذ خطاب العرش لدى افتتاح الدورة البرلمانية العادية الثانية في الخامس من تشرين الأول الماضي, عندما دعا الملك إلى إعادة دراسة توصيات لجنة الأقاليم وطلب من الحكومة أن تقوم بما يلزم, حتى تعديل التشريعات لإحياء الفكرة.
لكن غموض موقفه فتح المجال واسعا أمام كل سياسي سبق وعمل على "طبخة" مشروعات الأقاليم لأن يروّج للنموذج الذي يعتقد أنه الأنسب لتنفيذه, بدءا بمشروع يعتمد "المحافظة خلية تنموية" بقي في أدراج وزارة الداخلية منذ ,2004 وآخر صاغته في العام التالي لجنة ملكية برئاسة زيد الرفاعي, يدعو لإعادة هيكلة البنية المؤسسية السياسية والإدارية وإعادة تعريف مفهوم العمل العام.
بين هذا وذاك يستذكّر الأردنيون تكهنات ربطت مشروع الأقاليم بتسويات إقليمية قادمة مثل إلحاق الضفة الغربية ومحافظة الأنبار العراقية بالأردن. تلك الهواجس ظهرت خلال مرحلة الشد بين مدرستين متنافرتين - المحافظين التقليديين والليبراليين الاقتصاديين- تحكمتا بالمشهد السياسي قبل أن يخرج الملك رموزها قبل شهور.
ويستغرب عضو اللجنة الملكية العين فايز الطراونه, رئيس وزراء أسبق »يمين وسط«, استمرار الحديث عن أهداف سياسية تتعدّى مفاهيم التنمية المحلية خلف فكرة دمج المحافظات في ثلاثة أقاليم. فاللجنة أوصت, بحسب د. طراونة, أن تبقى "القرارات السياسية والسيادية وتخصيص الموازنات وغيرها في عمّان... أما الحديث عن إلحاق الضفة أو غيرها من المناطق فهي ليست أكثر من شطحات فكرية ليس لها أساس في المشروع". ويصر على أن العملية لن تحتاج إلى تعديل ما لا يقل عن 200 قانون, بخلاف آراء سياسيين آخرين في مقدمتهم وزير الداخلية الأسبق سمير الحباشنة.
الأيام المقبلة ستكون مليئة بالتحديات قبل تحديد بوصلة التوجه الجديد صوب اللامركزية والتي ظهرت لأول مرة في منتصف الثمانينيات على لسان ولي العهد الاسبق الامير الحسن بن طلال الذي طالب في ذلك الوقت ٍبدور تنموي للمحافظات.
يواجه الذهبي, بحسب معاونيه, ضغوطا من داخل مطبخ صناعة القرار, بمن فيهم وزير الداخلية نايف القاضي, تدفع باتجاه تأييد مقترحات اللجنة الملكية التي تطالب بتجميع محافظات المملكة الاثنتي عشرة ضمن أقاليم الشمال, الوسط, الجنوب ما عدا العاصمة ومنطقة العقبة الاقتصادية الخاصة وإقليم البتراء. كل إقليم, وفقا لهذا المقترح, يضم أربع محافظات, وكل محافظة تضم عشر مناطق انتخابية تعمل بحسب قانون الصوت الواحد, وتنتخب مجلسا استشاريا قوامه عشرة أشخاص منتخبين وواحد معين لحماية حقوق الأقليّات العرقية والدينية. المجالس الأربعة تشكل برلمانا في كل إقليم من 44 مقعدا, دوره رقابي على المفوض العام المعين من قبل رئيس الوزراء. في حال نفذ المشروع بحذافيره, سيقلل عدد أعضاء مجلس النواب (110), ما يساهم في تفعيل دور البرلمان الرقابي والتشريعي.
أما رئيس الحكومة, فهو أقرب إلى تصورات مسودة وزارة الداخلية لعام 2004 وتعديلاتها اللاحقة والقائمة على تفعيل "اللامركزية الإدارية" عبر منح المحافظ صلاحيات واسعة, خاصة في إعداد الموازنة العامة التي يوافق عليها مجلس الأمة. المسودة تعتبر المحافظة - أساس التشكيلات الإدارية في المملكة منذ 1966 - وحدة تنموية مركزية مع تفعيل دور المجلسين التنفيذي »مكون من مدراء الدوائر الحكومية« والاستشاري; الذي يضم وجهاء مجتمع, ونوابا وممثلين عن القطاع النسائي والاقتصادي عبر انتخابهم بهدف توسيع قاعدة صنع السياسة العامة.
في الأثناء, دخل وزير الشؤون البلدية المهندس شحادة أبو هديب على الخط, بمشروع يركز على الجانب التنموي حصريا, مع الالتزام بفكرة الأقاليم الثلاثة »شمال, وسط وجنوب«, وتطعيم دور البلديات الـ 93 بالمهمة التنموية بطريقة تتعدى الجانب الخدماتي كما هو الآن.
وبين هذه التوجهات المتقابلة, يستمر الإرباك والتردد الحكومي والشعبي. وتتنامى مخاوف ساسة مستقلين ونشطاء حزبيين وإعلاميين من أن إعادة أحياء ملف "ألاقاليم" جاء استباقا للضغوط التي ستمارسها إدارة الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما على الأردن وغيرها من الحلفاء. إذ يبدو, بحسب دبلوماسيين أن الضغوط ستصب لمصلحة تحسين مناخ الحريّات العامة وحقوق المرأة والطفل والمجتمع المدني من دون المس بأسس صناعة القرار السياسي عبر الإصرار على تغيير قانون الانتخاب الحالي مثلا.
يساند هذا الانفتاح ساسة وحزبيون وإعلاميون يطالبون بأن يكون مخطط اللامركزية, سواء في المحافظات أو الأقاليم, جزءا من برنامج إصلاح سياسي وطني متكامل بخارطة طريق تشمل الانتخابات البلدية والنيابية المقبلة, وتوسع من هوامش الحرية الإعلامية, وتساهم في خلق ثلاثة تيارات سياسية أو أكثر لها برامج مقنعة تساعد على كسر احتكار التيار الإسلامي المنظم للشارع. وقد يشجع ذلك صاحب القرار على تغيير آلية تعيين الحكومات بدلا من استمرار العمل ضمن أسس الترضيات العشائرية والمناطقية والعائلية.
برأيهم, لم يعد من المقبول أن يتم الحديث عن مشروع الأقاليم بمعزل عن تصور واضح لإصلاح سياسي قائم على خطوات فعلية تحمي تركيبة الأردن وبنية النظام السياسي وتصونها حتى ما بعد حل القضية الفلسطينية في بلد نصف سكانه من أصول فلسطينية.
ولم يعد مقبولا إمعان غالبية أصحاب الدولة والمعالي وسائر الألقاب في التحذير من مخاطر الدعوة لإصلاحات سياسية حقيقية تكافح الفساد والمحسوبية والمطالبة بالالتزام بنصوص الدستور فقط مواسم الرد على انتقادات خارجية أو لطبطبة الخواطر الشعبية.
فالتردّد حيال بلورة استراتيجية إصلاح سياسي تدريجي ينفذ خلال العقدين المقبلين يؤذي مصداقية الحكم ومجلس وزراء مكبل ببيروقراطية قاتلة وبرلمان يصرف جل وقته لحل مطالب المواطنين بدلا من التشريع والرقابة, وانتهاء بشعب مثقف يؤمن بـ ثالوث "الله, الوطن, الملك".
حان وقت تعزيز المصداقية الرسمية وجسر الهوة بين النظري والفعلي والإجابة بطريقة مقنعة حيال تحديين أساسيين يواجهان الأردن هذه الأيام: حدود الإصلاح السياسي ودور المملكة السياسي الإقليمي والدولي بدلا من تعميق الانطباعات بان دوره تهمش بصورة غير مقبولة











































