هل الكنيسة الإنجيلية كنيسة وطنية؟
يطلُّ علينا بين الحين والآخر شخصيات عدة تُشكك في الكنيسة الإنجيلية وكيانها في الأردن. وهذا أمرٌ طبيعي؛ لأن النجاح الذي حققته الكنيسة الإنجيلية الأردنية منذ نشأة الدولة الأردنية على كافة الأصعدة، الروحية والمجتمعية والخدمية، أصبح يهدد مساحة الكنائس التي بقيت على مدار مئات السنين في هذه البقعة الجغرافية، والتي لم تستطع، برأيي، حتى يومنا هذا لمَّ شمل رعاياها.
وسبب نجاح الكنيسة الإنجيلية الأردنية هو ليس قدرة قادتها وحكمتهم، بل استنادها في حياتها وتعليمها وخدماتها إلى تعليم الإنجيل المقدس، لذلك يُسمَّون "إنجيليين". ودعوة الكنيسة الإنجيلية اليوم هي دعوة لكل الكنائس على مر العصور إلى العودة إلى الأساس- الأساس الذي حادت عنه بعض طوائف الكنيسة على مر قرون عندما بات رجال الدين هم القادة السياسيين في العالم، وانتشر الحكم الثيوقراطي (حكم الله على الأرض بواسطة رجال الدين). وأدى هذا إلى تدهور أوضاع الكنيسة ورسالتها، بل إن الحال وصلت إلى قتل مَن يخالفها ويخالف عقيدتها. ومن هنا أتت دعوة الإنجيليين المُصلحين إلى العودة إلى مبادئ الإنجيل، وذلك بالمناداة بفصل الدين عن الدولة؛ لأن دور رجال الدين، حسب نصوص الكتاب المقدس، هو الخضوع للدولة، وليس قيادة الدولة (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الفصل 13).
وهذه العودة إلى المبادئ تهدد قيادات دينية عدة كسبت شرعيتها الدينية والسياسية بالفهم المغلوط لمبادئ الإنجيل. ويطل علينا بعض الأشخاص بين الحين والآخر ليشككوا في جوانب عدة؛ فهناك من يشكك في وطنية الكنيسة الإنجيلية، أو في إيمانها، والأدهى هو ظهور أصوات في الآونة الأخيرة تشكك في قدسية عهد الزواج المقدس، وشرعيته أمام الله والناس والدولة، وشرعية أبناء الإنجيليين.
السؤال الذي سأجيب عنه في هذا المقال هو: هل الكنيسة الإنجيلية كنيسة وطنية؟
الشراكات الدولية أمرٌ لا بد منه؛ فالدولة الأردنية لديها الكثير من الشراكات مع دول أخرى؛ حيث لا تستطيع أية دولة أن تظلَّ مستدامة بمعزل عن العالم الخارجي. لكنَّ المهم أن هذه الشراكات الدولية لا تنقص من السيادة الكاملة للأردن على أراضيه وقراره. وأؤكد هنا أن الارتباطات الخارجية ليست أمرًا سيئًا؛ إذ إنها تعزز قوة الأردن ودوره على كافة الأصعدة. وبالمثل، فإن للكنيسة الإنجيلية الكثير من الشراكات على المستويين الداخلي والخارجي، فضلًا عن المستوى الروحي الاجتماعي (خدمة المجتمع). لكن ما يُميز الكنيسة الإنجيلية الأردنية عن بقية الكنائس الأخرى هو أن ليس لها أي ارتباط إداري خارجي.
ومن المهم هنا أن أوضح بعض التعريفات.
الارتباط الروحي: هو أن تكون للكنيسة مبادئ الإيمان مع أشخاص من جنسيات مختلفة حول العالم، وهذا أمر طبيعي يكفله أي دستور في أية دولة ديمقراطية. فمثلًا إيمان الكنيسة المعمدانية الأردنية يتفق إلى حد بعيد مع إيمان الكنيسة المعمدانية في هولندا، أو أميركا أو نيبال أو روسيا.
الارتباط الاجتماعي (الخدمي): هو عندما تكون لك الرسالة المجتمعية نفسها لخدمة المجتمع مع أية هيئة أو مؤسسة خارجية، بغض النظر عن العقيدة الإيمانية، مثل تعاون بين الكنيسة المعمدانية الأردنية وأي منظمة عالمية تهتم بإغاثة اللاجئين ويكون هذا تعاون محدود لفترات محدودة لتنفيذ عمل محدود.
الارتباط الإداري: هو عندما يكون هناك جهة أو طائفة دينية معينة خارجية تكون مسؤولة إداريًّا عن الكنيسة داخل الأردن، ولديها سلطة تنصيب المسؤولين وعزلهم، وتعيين رؤساء الكنيسة والكهنة، كما يحق لها التصرف بأموال الطائفة الدينية وممتلكاتها المنقولة وغير المنقولة. الارتباط الإداري هو أمرٌ جيد، لكنه يُضعف موقف الكنيسة عند تناول موضوع الوطنية؛ لأن الكلام عن الوطنية حينها يصير محض ادعاء. والحديث هنا هو بشأن وطنية الكنيسة، وليس التشكيك في وطنية رعاياها. كيف؟ ببساطة لأن شؤون الكنيسة و"مطبخ صنع القرار"- إن جاز التعبير- يكون في الخارج لا الداخل.
وحتى يكون حديثنا مُتزنًا، علينا أن ندرك أن الكنيسة الإنجيلية منذ نشأتها مع نشأة الدولة الأردنية كانت، وما زالت، كنيسة تؤكد هويتها الوطنية، وليس لها أي ارتباط إداري خارجي يتحكم فيها. وهنا أود أن أُدرج الأسباب التي أرى بناء عليها أن الكنيسة الإنجيلية هي الكنيسة الوطنية بحق.
رئاسة الكنيسة أردنية: منذ أن بدأ العمل الإنجيلي رسميًّا في الأردن منذ شهر شباط عام 1927م، سعت الكنيسة الإنجيلية الأردنية إلى التشديد على هويتها الوطنية. ولأكون أكثر تحديدًا- على سبيل المثل لا الحصر- سعت الكنيسة المعمدانية منذ أن سُجلت في الدولة الأردنية إلى بناء الشراكات الروحية والمجتمعية الخدمية، وفي الوقت نفسه، ظلت مستقلة إداريًّا عن المجامع المعمدانية العالمية؛ فببساطة هذا هو النموذج الإنجيلي الذي يتبع الإنجيل المقدس: أن تختار الرعية رعاتها وقادتها. لهذا منذ أن بدأت الكنيسة في الأردن وسُجِّلت في مؤسسات الدولة، وبدأت بممارسة الحياة الكنسية، كان جميع قادتها أردنيين من مدن وبلدات أردنية أصيلة. وهذا أحد أهم الأدلة على أن الكنيسة المعمدانية الإنجيلية هي كنيسة وطنية، ويجري انتخاب قادتها بحضور الهيئة العامة من أبناء الكنيسة، وبحضور مندوبين من أجهزة الدولة المختلفة. ويجري تنسيب كتاب رسمي من الطائفة إلى الدولة لإخبارهم بالرئيس الأردني المُنتخب من أبناء الكنيسة.
أملاك الكنيسة أردنية: السبب الآخر الذي يجعل الكنيسة المعمدانية كنيسة وطنية بحق هو أن كل أملاك الكنيسة المعمدانية الأردنية، والتي تُقدّر بعشرات الملايين من الدنانير، هي أملاك مُسجلة في سجلات الدولة الأردنية على أنها أوقاف مسيحية. ومن يملكها، بطريقة أو بأخرى، هي الدولة؛ إذ يمكن أن تستخدمها الدولة لخدمة أبنائها المسيحيين (على مستوى الكنائس لتأمين الرعاية الروحية)، ولخدمة أبنائها غير المسيحيين (على مستوى المدارس والمعاهد والمستشفيات والمراكز الطبية). فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا قررت الطائفة المعمدانية إغلاق جميع كنائس الطائفة، وبيع جميع الممتلكات المنقولة وغير المنقولة، فلمن تؤول هذه الأموال؟ لا تؤول إلى رئيس الطائفة ولا إلى مجلسها ولا إلى أعضائها؛ إذ ليس لهم الحق في أخذ هذه الأموال أو جزءٌ منها. بل حسب قانون الوقف، تذهب إلى كنيسة مشابهة لأعمالها، أو تذهب كل هذه الأموال إلى خزينة الدولة الأردنية حسب قرار الكنيسة؛ فهي وقف مسيحي خاضع للدولة. وفي كلتا الحالتين تبقى الأملاك داخل الأردن ولا تُصدّر للخارج، وهذا سبب آخر يؤكد أن الكنيسة المعمدانية الإنجيلية هي كنيسة وطنية وأملاكها وطنية.
خير الكنيسة للداخل لا الخارج: سبب آخر يؤكد أن الكنيسة المعمدانية كنيسة وطنية هو خدماتها على كافة الأصعدة للمجتمع الأردني. وسأقدِّم مثلًا واحدًا بين مئات الأمثلة على الخدمات المجتمعية للطائفة المعمدانية الأردنية والكنيسة الإنجيلية بشكل عام، وهو المستشفى المعمداني. تأسس هذا المستشفى عام 1940م في مدينة عجلون تحت مسمى مستشفى جلعاد، وكانت سعته حينها 27 سريرًا. وفي 15/6/1952م، أطلق عليه اسم مستشفى عجلون المعمداني، الذي قدَّم الخدمات الطبية لأبناء الشمال عمومًا وليس عجلون فقط؛ إذ كان يعد مستشفى إقليميًّا. وفي 5/7/1974م، افتتح جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال المبنى الجديد للمستشفى المعمداني، والذي بقي حتى عام 1989م، قبل أن يصبح مُلكاً لوزارة الصحة ويحمل حتى اليوم اسم مستشفى الإيمان، وهو لا يزال يقدم الخدمات للمواطنين.
وغني عن القول إن هناك مئات من أبناء الكنيسة الإنجيلية، بل ربما آلافًا على مرِّ العقود، خدموا في جيشنا العربي الباسل، من رتبة جندي "مكلَّف" حتى رتبة لواء. ومنهم من خدم في السلك القضائي، وفي مختلف أجهزة الدولة، ومنهم من كان عضوًا في البرلمان الأردني، ومنهم من كان معلمًا، وطبيبًا ومهندسًا وعاملًا. وهذه كلها تؤكد أن الكنيسة الإنجيلية بأبنائها هي كنيسة وطنية بحق.
لم أرغب يومًا في الحديث بهذه الأمور، لكن ما يحدث في الآونة الأخيرة من استقواء على الكنيسة الإنجيلية الأردنية، والتجاوزات والإساءات التي تُرتكب في حقها، والتشكيك في هويتها الوطنية، استدعى البدء برحلة الكتابة للدفاع عن حقي، بصفتي مواطنًا أردنيًّا إنجيليًّا، كفلَ لي الدستور حرية المعتقد.
أومن بأن الدولة الأردنية دولة ذات دستور راقٍ يحترم التعددية، وبأن لدى الدولة القدرة على حماية أبنائها من زرع الانقسامات، وإحداث شرخ في النسيج الوطني الذي بُني على مر عقود. ونتوقع من الدولة عدم السماح لزارعي الفتن بالتشكيك في وطنية أبنائها وحبهم للأردن الغالي. ونحن إذ نحتفل في مطلع المئوية الثاني لوطننا الحبيب، نجدد العهد بالوفاء والانتماء لتراب هذا الوطن الذي فداه أجدادنا بدمائهم الطاهر، ونفديه بنفوسنا وأرواحنا كما علمنا المسيح مبدأ الفداء. حمى الله الكنيسة وحمى الله الأردن في ظل حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم.