موت سريري لمهنة الصيد في العقبة
كان حواراً ساخناً ذلك الذي اشتد بين رجل خمسيني . وبائع أسماك على جادة احد شوارع العقبة . و ما زال التاجر يؤكد ان الاسماك التي يعرضها (عقباوية ) يعني بذلك انها من خليج العقبة .. لكن الخمسيني يصر على انها مستوردة . إما من اليمن أو مصر لينتهي الامر باعادة السمك الى ثلاجته.. ومغادرة الخمسيني بحثاً عن سمك طازج بالقرب من الشاطىء الاوسط حيث ترسو قوارب الصيادين هناك .
هنا بدأت الحكاية .. (عشرات المراكب) تتبعثر هنا و هناك و اشلاء من الشباك و السخاوي بعضها ممزق و اخرى تزين مقدمة القارب و ثالثة يتكىء عليها صياد ما زال يمعن النظر في مياه البحر فغالبته الدموع و هو يشتهي سمكة من هذه المياه دون ان يتمكن من الحصول عليها .
انها قصة الصيد في العقبة . التي أرغمت عشرات الصيادين على هجر الشباك ..و ترك السخاوي .. و رمي السنارة .. بعد ان أجبرتهم مياه الخليج الدافئة على ترك مهنتهم . لكنهم و إن أداروا ظهرهم للبحر ما زالت القلوب و الأفئدة مشبعة بتلك الذكريات التي عاشوها مابين السداسيات جنوباً و الباخرة الغارقة شمالاً .
وفي التفاصيل فقد أعلنت جمعية صيادي الأسماك في مدينة العقبة عن دخول مهنة الصيد في مياه خليج العقبة .غرفة الإنعاش وذلك من خلال الإعلان عن بيع مبنى الجمعية في خطوة فاجأت الكثيرين من عشاق هذه المهنة و محبيها وفتحت باب الاجتهاد للقاصي و الداني عن أسباب و مسببات هذا الموت السريري و الذي جسد النهاية الحزينة لأحد أهم مشهد في الحكايات التراثية و التاريخية المحفورة في وجدان الذاكرة الشعبية بالعقبة لاسيما وان أبطال الحكاية( الصياد و البحر) مازالا يتأملان بعضهما بوجود القارب الساكن و الشبكة الخاوية .. وزاد الامر ألما أن احداً لم يحرك ساكناً لغاية اليوم بعد إعلان الجمعية (الموت السريري ) لمهنة الصيد في العقبة.. ما فسره كثيرون على انه قبول بهذه النهاية الدرامية.
وترحيب بها من قبل الجهات المسؤولة عن البحر لتكون النتيجة صمت رسمي بعد الإعلان .. وخوف على المهنة من الاندثار لمن عشقها.. وبعض صيادين اقسموا زيارة البحر كل صباح رغم الوجع ..يحنون إلى بحرهم و أمواجهم و أغانيهم (وسمكاً شهياً) من بحرهم و مازالوا يأملون في شيء ما ..
«صيادو العقبة»
"كرهت عملي بسبب المضايقات التي تطاردني أينما ذهبت".. بهذه الكلمات بدأ الصياد سلام سويلم حديثه.. وزاد بان معاناة الصياد في العقبة تتمثل بمحدودية المساحة المسموح للصيادين بالصيد فيها بسبب سيطرة أرصفة الموانىء و قوانين البيئة و القوى البحرية على مياه البحر وتناقص الثروة السمكية في مياه الخليج اضافة إلى منع الصيادين من الاقتراب من الشواطىء التي يتواجد فيها الطعم المستخدم في الصيد .
واشار سلام إلى ان الصياد مطارد باستمرار بدون سبب مباشر في اغلب الأحيان و في حال حدوث أية مخالفة أو مشكلة بسيطة يحول إلى الجهات الامنية و توقع بحقه المخالفات و يمنع من الصيد لفترة من الوقت لافتاً إلى انه لم يمارس الصيد منذ فترة طويلة بسبب هذه الإجراءات المتشددة ناهيك عن انعدام وجود طرق للطعن القانوني لوقف الظلم الذي يتعرض له الصياد في حال تعرضه لأية مخالفة أو منع من مزاولة المهنة .
مؤكداً ان بيع ممتلكات الجمعية هو الحل المتبقي أمام أعضائها في ظل الوضع المتردي الذي تعيشه المهنة و أعضاء الجمعية الذين لم يستفيدوا من وجودها طيلة السنوات الماضية وذلك لتدني الدعم المقدم لها من قبل الجهات المعنية .
الصياد عمر السكاب يزاول المهنة منذ حوالي 53 عاما قام مؤخراً ببيع أدوات و قوارب الصيد التي يمتلكها لعدم جدوى هذه المهنة حالياً .. ولكنه ليس الصياد الوحيد الذي تخلى عن أدواته و مهنته التي عشقها فهناك الكثيرون الذين نهجوا نهجه لعدم وجود البديل المناسب .. و يؤكد السكاب أن الصياد لا يتنازل عن أدواته فهي رفيقة دربه و اعز ما يملك لكن الواقع الصعب الذي يعيشه الصياد حالياً والإجراءات المتشددة التي تحاربه في مصدر رزقه دفعته مكرهاً إلى التخلي عن مهنته وأدواته الامر الذي يهدد هذه المهنة بالزوال اذا لم تسارع الجهات المعنية بوضع الإجراءات الكافية لحمايتها من الانقراض كي لا تغدو العقبة بلا هوية مميزة وفقاً لقوله .
من جانبه أكد الصياد عبد الكريم عريج( و الذي ودع هذه المهنة مؤخراً ) ان الصيادين القدامى هم أكثر الفئات تضرراً لاعتمادهم على الصيد كمصدر أساس للرزق ناهيك عن عدم شمولهم بالضمان الاجتماعي او التأمين الصحي مقارنة بمن اسماهم بدخلاء المهنة و الذين يمارسون الصيد كهواية و يعملون في وظائف حكومية تؤمن لهم و لا بنائهم مستقبلاً افضل .
وأشار إلى أن الصيادين فوجئوا بالوضع الصعب للصيد في المياه اليمنية والمتمثل بغياب الحوافز المتفق عليها في العقد و عدم التزام شركة البحر الاحمر للأسماك ببنود الاتفاقية و عدم كفاية الراتب فكانت العودة إلى العقبة الحل الباقي مفضلين واقعهم الحالي على العمل في اليمن .
ونوه إلى ان الصياد في العقبة يعامل معاملة المهرب الخطير فهو مطارد من قبل الهيئات المسؤولة عن البيئة على الرغم من ان الصياد الذي خبر البحر هو من أشد الناس حرصاً عليه كونه يمثل مصدر رزقه ورزق أبنائه .
«جمعية صيادي الأسماك»
وبين سكرتير جمعية صيادي الأسماك محمود بسيوني أن إعلان الجمعية بيع مبناها هو الحل الأخير المتبقي لاعضائها من الصيادين مشيراً إلى عدم حصول الجمعية على أية مساعدة أو منحة لمساعدتها على القيام بتسديد التزاماتها حيث لم نجنً من المسؤولين إلا وعوداً .
وحول المبلغ العائد من عملية البيع أوضح بسيوني أن الجمعية ستوزع جزءاً منه على أعضائها و الجزء المتبقي ستقوم باستثماره وشراء ( مسمكة ) نقوم من خلالها باستيراد السمك من اليمن و بيعه في العقبة مشيراً الى الدعم المقدم من قبل السلطة بمنح جمعية الصيادين قطعة ارض لبناء المسمكة عليها .
«المتنزه البحري»
من جانبه نفى مدير المتنزه البحري عبدالله ابو عوالي وجود توجه لدى سلطة منطقة العقبة بإلغاء مهنة الصيد مؤكداً سعيها للحفاظ على هذه المهنة التراثية المتعلقة بهوية المدينة وهي جزء أساس من تراث سكانها على مدى عقود مضت .
و بين أبوعوالي أن الصيادين في العقبة يعيشون واقعاً صعباً يتمثل في قلة مساحة الصيد و الثروة السمكية لافتاً إلى أن الاجراءات البيئية تشكل جزءاً بسيطاً في مشكلة الصيادين ..
وقال ان تدني المردود المالي العائد من هذه المهنة في ظل الظروف المعيشية الصعبة ورحيل الصيادين إلى الشاطىء الشمالي بسب اقامة مشروع لخفر السواحل على الشاطىء الجنوبي حيث تكثر الأسماك وهذه من اهم الاسباب التي ساهمت في هجر اغلب الصيادين لمهنتهم و البحث عن مهن مجدية اقتصاديا .
وأكد ابوعوالي ان السلطة قدمت دعماً مالياً و معنوياً للصيادين لتمكينهم من الاستمرار في المهنة و تحفيزهم على تطوير واقعهم لكن ما جرى في الجمعية ساهم في تراجع هذه المهنة مؤكداً أن الصيادين يتحملون (50% ) من أسباب تردي مهنة الصيد في العقبة .
«آراء عقباوية»
واجمع سكان العقبة الذين التقتهم (الدستور) على اهمية مهنة الصيد كجزء اساس من تراث العقبة و هويتها المميزة حيث لا يمكن تصور ثغر الاردن الباسم بمعزل عن الصيد و السمك الذي ارتبط في أذهان زوار المدينة كأبرز معلم من معالمها كونها من المدن الساحلية.
وأكد الباحث في التراث العقباوي عبد الله المنزلاوي ان مهنة الصيد تعد من اهم ملامح هوية العقبة كونها المدينة الساحلية الوحيدة في الاردن مشيراً إلى ان المدينة تتعرض إلى تغيير كبير يؤثر على هويتها بسبب المشاريع الاقتصادية المقامة لاسيما وان معالم المدينة القديمة قد أزيلت و لم يتبق سوى القلعة و بيت الشريف و آيلة .. الأمر الذي يشكل خطراً على شخصية المدينة .
وبين المنزلاوي ان اختفاء الصيد من العقبة سيجعل سكانها يشعرون بالغربة وسيجعل صورة المدينة بلا ملامح مميزة .
نافياً وجود تعارض بين العصرنة و الحفاظ على الموروث الثقافي بل يجب توظيف الموروث الثقافي في تسويق المدينة الأمر الذي سينعكس على العملية السياحية و الاقتصادية .











































