من الضرر المادي إلى الأثر الاجتماعي: تحليل أعمق لجرائم الذمّ والقدح

الرابط المختصر

حماية سمعة المفكرين والعلماء

من أهمّ غايات وجود القوانين حماية حقوق الانسان من أي انتهاك أو اعتداء، وأما أساس كلّ تلك الحقوق ومنطلقها فهو "الكرامة"، لذلك نلمس حرص التشريعات على تجريم أي اساءة لكرامات الناس، وحمايتهم من أي ذمّ أو قدح يستهدف تشويه سمعتهم ومكانتهم وقيم ملكياتهم الفكرية. ولعلّ من سوء الفهم والادراك لدى البعض الربط بين الاساءة لسمعة وكرامة الانسان والضرر المادي، فالسمعة ليست أمرا ملموسا حتى نشترط وقوع ضرر مادي من أجل إثبات تضررها أو تبرير الذمّ والقدح!

من غير المقبول ولا المعقول أن تتركّز أسئلة المدعى عليهم في قضايا الذمّ والقدح أو اغتيال الشخصية على حجم ومقدار الضرر المادي الواقع على من جرى اغتيال شخصيته أو ذمّه أو قدحه، وكأن كرامات الناس وسمعتهم لا قيمة لها في نظرهم، وأن القيمة الوحيدة هي القيمة المالية فقط، والواقع أن حجم الضرر في جرائم الذمّ والقدح لا يمكن أن يُقاس بمقدار "الضرر المادي"، فهذا النوع من الجرائم يستهدف القضاء على الخصم كليّا وليس فقط تكبيده خسائر مادية، فما يترتب على اغتيال الشخصية أكبر ضررا من أية خسائر مادية.

تخيّلوا أن شخصا أفنى ستة أو سبعة عقود من عمره في العلم والتعلّم والمعرفة والعمل والانجاز حتى حظي بسمعة عالمية فكرية أخلاقية انسانية، وقدّم فيها لوطنه وأمّته ما قدّم، ثمّ يأتي من يتهمه في أمانته ونزاهته بشكل يُراد منه تدميره وتدمير ما حققه طوال هذه السنين، ثمّ يأتي المفتري ليسأله بكلّ بساطة عن الضرر المادي الذي لحق به جرّاء ما افترى عليه به لينجو من الجرم الذي ارتكبه! هذا لا يجب أن يُسمح به؛ لا يجب أن يُسمح بتحوّل موضوع الاساءة لسمعة الشخصيات العامة إلى دراسة عن مدى نجاح الخصم في الحاق الضرر بهم ليزداد المفتري فرحا وشماتة، لأن القضية ليست في الضرر المالي الذي لحق بأعمال المفترى عليه، فالهدف من هذه الجريمة هو تدمير سمعته وملكيته الفكرية التي ربما تقدّر بالمليارات.

 

ومن صور الذمّ والقدح الواجب تغليظ العقوبة عليهما، اتهام الأشخاص بما ليس فيهم من الأوصاف والأفعال، خاصة إذا كان هذا الذمّ والقدح موجّها لشخصية عامّة ومفكّر عالمي بحجم الدكتور طلال أبوغزاله، الذي قضى سنين عمره في بناء سمعة عالمية وفكرية وأخلاقية وانسانية، إذ أن قانون الجرائم الالكترونية قد يمنع نشر الافتراءات والاتهامات الموجهة لهم على الملأ لكنه لن يمنع تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فردي أو جماعي، والمعلوم أن تداول الافتراءات بحقّ الشخصيات العامة والمفكّرين من شأنه "وصمهم" بما ليس فيهم من الصفات، وبالتالي تشويه سمعتهم التي أفنوا عمرهم في بنائها، وضربها في مقتل. وهنا لا ننكر على أحد حقّه باللجوء إلى القضاء، لكن لا بدّ من أن يتحمّل كلّ فرد مسؤولية الاتهامات التي يوجهها للآخرين دون بيّنة.

إن ذمّ وقدح الشخصيات العامة والملكيات الفكرية المعروفة هي جريمة بغضّ النظر عن الضرر المادي الآنيّ المترتب عليها، بل أنها توازي جريمة "اغتيال الشخص" وليس "اغتيال شخصيته"، مع التأكيد على أن الضرر المادي قد لا ينعكس على المرء بشكل فوري، خاصة إن كانت قيمة "المشتوم" هي في اسمه وسمعته الشخصية وأمانته المهنية والفكرية. أن تلك الشخصيات تعتبر سمعتهم هي رأس مالهم في هذه الحياة، والإرث الذي سيتركونه للأجيال القادمة التي تراهم قدوة وأنموذجا، لذلك نراه دائم الحرص على خوض المعارك القانونية في القضايا التي تمسّ سمعتهم وأمانتهم المهنية والفكرية.

أما كرامة عائلة "المشتوم" فهي الكارثة الأكبر في هذا النوع من الجرائم عندما يتجاوز أثرها لشخص وزوجته، فكيف نقبل بعد هذا أن نسأل عن الضرر المادي، أليست كرامات العائلة وحرماتها جريمة أم؛ أن الضرر المادي فقط هو الجريمة في نظر المفترين.

في قناعتي، أنه في قضايا الذمّ والقدح واغتيال الشخصية، لا بدّ للعقوبات أن تكون مغلّظة ورادعة، وتوازي حجم ومكانة الشخصية التي تُرتكب بحقّها مثل هذه الجرائم، وإلا فإن العقوبة لن تحقق غاية وجود القانون وهو توفير الحماية الكافية للأفراد.

وعلينا أن لا ننسى أن المفكّرين ليسوا سلعا أو بضائع مادية، هم قيمة معنوية وفكرية عالمية.