ممنوعة من السكن لوحدها.. باقية تحت الوصاية
عاشت فادية لفترة طويلة مستقلة في سكن خاص بها. كان ذلك أيام الدراسة في الخارج، عقب إنهائها الثانوية العامة. وعلى رغم أنها كانت ما تزال صغيرة، فإنها حظيت بموافقة أسرتها على السكن لوحدها، بغية الدراسة.فادية سعيدة جدا بتجربتها تلك، وتستذكرها الآن وتتمنى إعادتها. فهي سعيدة بتجربتها خلال تلك الفترة، وما خبرته من تحمل للمسؤولية واستقلالية بكل تفاصيل الحياة اليومية. وهي الآن، وبعد ان اعتادت السكن لوحدها وأنهت مرحلة الدراسة الجامعية، عادت لتسكن مع أهلها.
عمر فادية الآن 33 عاما. وهي على رغم تمكنها من تحقيق استقلالها الاقتصادي بفضل عملها، فإنها تتمنى السكن لوحدها، بخاصة وأنها تشعر بتلك الفجوة بين أسلوبي الحياة المختلفين، الأمر الذي أدى إلى تشكيل عبء نفسي عليها وحرمانها من الإحساس بالاستقلالية. وليس لعدم تمكن فادية من السكن لوحدها سبب واحد يمكن تخطيه بسهولة، وإنما أكثر من سبب.
تقول فادية: "درست في الخارج وجربت فرصة السكن سواء لوحدي أو مع صديقاتي، وأتمنى ان اسكن لوحدي من جديد".
حاولت فادية إقناع أهلها بالسكن بمفردها الآن، لكنهم رفضوا ذلك. والأمر متعلق بـ"الناس"، وكلام الناس: "خضت نقاشات طويلة مع أهلي حول الموضوع، وكانوا يجاوبوا بعفوية وتلقائية دائما أن المشكلة هي حكي الناس".
وتضيف: "المشكلة ليست اقتصادية، فأنا قادرة على الاستقلال. أهلي ربّوني جيدا، وهم على ثقة بي، إذ سافرت قبلا وعشت وحيدة خارج البلاد للدراسة، وتخرجت بامتياز، وما سمعوا عني إلا كل خير، فكيف لو كنت في نفس البلد التي هم فيها، والأردن معروف انه بلد آمن، وسأكون قريبة منهم وممكن أن أراهم كل يومين أو كل يوم".
إحساس فادية بأنها تعيش تحت وصاية الآخرين يقلقها. وترى أن رفض أهلها لسكنها وحيدة مرتبط بكونها امرأة. "لو كنت شابا لاستوعب أهلي الأمر".
الاستقلال في السكن بالنسبة لفادية يعني تحقيق الذات والشعور بأنها قوية ومسؤولة عن نفسها. "كوني مستقلة ومسؤولة عن نفسي بكل تفاصيل حياتي اليومية يساعدني على تحقيق ذاتي. أريد أن أرسم يومي بنفسي. لا أحب الشعور بأني طفلة صغيرة عندها مواعيد يجب أن تأتي وتخرج بها، حتى في البيت لا أحس باستقلالية ما يشكل عبئا نفسيا علي. ما الذي يختلف بيني وبين أختي الصغيرة".
وتضيف فادية: "أنا ناجحة في عملي واستمتع به. وإذا لم أقابل الشاب المناسب قد لا أتزوج. الواحد منا لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل. هل بقائي هكذا يعني أن أظل في البيت، يتعاملون معي وكأنني طفلة؟ يمكن أن يصير عمري 40 أو 50 سنة وأهلي يحددوا لي تفاصيل يومي".
يطلبن حماية الرجل
غالبا ما تواجه رغبة المرأة بالاستقلالية بالرفض، مع اختلاف الأسباب شكليا، لا جوهريا. وغالبا ما يأتي الرفض من النساء أنفسهن.
نبيلة (27 عاما) تعارض بالكامل استقلالية المرأة. والسبب اعتقادها بضرورة وجود حماية للمرأة، وللحفاظ على كرامتها وشرفها. تقول نبيلة: "مهما صارت المرأة، لازم أن يكون هناك رجل يحميها، لأننا نحن نعيش في مجتمع شرقي وهذا الأمر لا ينفع. أما الشاب فيستطيع أن يتحمل مسؤولية نفسه".
ريم (40 عاما) لم تحدد رأيا واضحا، واعتبرت ظروف المرأة حكَما في القضية، وتقول: إذا كانت غير متزوجة فالأفضل أن تظل مع أهلها في كل الظروف. الأهل يظلوا حماية. التي تخطئ يمكن أن تخطئ سواء كانت ساكنة مع أهلها أو لوحدها".
ولا تختلف عالية (24 عاما) عن سابقاتها سوى أنها تعطي للمطلقة التي لديها أولاد بعض حق في الاستقلالية وتقول: "أفضّل أن تبقى المرأة مع أهلها. إذا كانت مطلقة يمكن ان يكون لها بيتها مع أولادها. أما إذا لم تكن متزوجة أفضّل ان تبقى في بيت أهلها صيانة لها".
أما الرأي "العائم" فكان سمة غالبة في آراء النساء المستفتيات.
أمل (22 عاما) لا تؤيد استقلال المرأة، لكنها تعتبر الأمر في يدي المجتمع وتقول: "هذا الأمر يعود إلى نظرة المجتمع الذي تعيش فيه المرأة. أما الرجل فأمر آخر تماما، ويحق له السكن وحيدا". وهذا كلام سميرة (27 عاما) التي تقول: "بحسب طبيعة الأهل. هناك ناس يمشون على أفكار ومبادئ قديمة وهناك ناس ما عندهم مانع".
لكن لأخريات آراء أكثر إيجابية تجاه القضية. فرغم أنهن لم يؤيدن صراحة حرية المرأة في استقلالها بالسكن، إلا أنهن عبرن عن الظلم الواقع على المرأة نتيجة عدم تساوي حقوقهن مع الرجال. تقول نائلة (30 عاما): "الرجل ممكن ان يستقل لوحده. نحن نبقى مجتمعا شرقيا لا يحاكم الرجل كما المرأة، فهي في مجتمعنا مظلومة في كل الأحوال". وهو ما تؤكده رولا وسمر وهنادي.
الفكرة الأساس التي يبرر بها كثيرون رفضهم لسكن المرأة وحيدة، هو وجوب بقاء المرأة تحت الوصاية. هذا يضاف إلى فكرة العادات والتقاليد التي توجب بقاء المرأة مع أهلها. وفكرة الوصاية نتاج طبيعي في مجتمع ذكوري يحتل فيه الأب رأس هرم الأسرة، يليه الذكور من الأبناء ثم الأم وأخيرا الإناث في قاع الهرم.
يفرضون الحماية
لا بد لسائل أن يسأل: ما هو رأي الرجال بأمر يخص الشباب منهم، كما النساء؟
يقول علي (25 عاما): "لازم أن تكون المرأة تابعة لزوجها، وإذا كانت مطلقة لازم أن تكون تابعة لإخوانها، لان العادات والتقاليد تقول إن على المرأة أن تكون تابعة لأهلها حتى تتزوج مرة أخرى. إذا كان عندها أطفال وأعمارهم تقترب من 12 سنة يمكن ان تسكن لوحدها".
وتأتي الإجابات الرافضة، وهي الإجابات الأكثر، متشابهة. كلها تقول: لأن العادات والتقاليد تقول كذا. ولأن هذا مخالف لما نعرف. أيضا، ترفض هذه الإجابات سكن المرأة لوحدها، بينما تبيح للشاب ذلك. وهذا رأي محمود (35 عاما) الذي يقول: "أؤيد سكن الشاب واستقراره. المرأة ليس لديها حرية ولا أؤيد استقلالها".
وهو أيضا رأي أبو احمد (40 عاما) الذي يقول: "أؤيد سكن الشاب لوحده ليعتمد على نفسه وليصبح رجلا. أما بالنسبة للمرأة، فهذا خطأ، يجب عليها أن تقعد في دار أبيها حتى تتزوج. وإذا كانت مطلقة يجب ان تبقى في دار أبيها، فهذا أحسن لكرامتها ولشرفها".
ويرفض محمد (30 عاما) سكن المرأة وحيدة ويقول: "حتى لو كانت مطلقة، يجب أن تعيش عند أهلها، لان الأعراف والتقاليد والعادات والعشائر لا تسمح بغير ذلك".
ولم يشذ جهاد (25 عاما) عن هذا الرأي بقوله: "المرأة تظل في المجتمع العربي امرأة عربية ولا تأخذ من حريتها إلا الحرية المطلوبة في المجتمع العربي. أما الشاب فمهما عمل مسموح له".
وزيد وسليمان وفيصل لهم أيضا الرأي نفسه الرافض لسكن المرأة وحيدة.
أما أبو علي (49 عاما) فيعارض استقلال الرجل كما المرأة في السكن، فبالنسبة له الأسرة هي السبيل الوحيد لمنع انحراف الأفراد، ويقول: "إذا كانت المرأة مطلقة أو أرملة ممكن أن تسكن بجوار أهلها لتكون مراقبة من الأب والإخوة، ولو أرادت ان تقوم بأي عمل تكون حاسبة له ألف حساب. وكذلك الأمر بالنسبة للشاب، فإنه سينحرف إذا بقي في بيت لوحده. لو بقي عند أهله سيكون أكثر انضباطا".
أبو علي ليس وحيدا في رأيه، أكاديميون أيضا يجادلون في ضرورة المحافظة على الأسرة، وليس الفرد، كوحدة مكونة للمجتمع. لكنهم يغفلون أن لقاء هذه البنية الاجتماعية مع مجتمع ذكوري، كما في الأردن، يؤدي إلى ذوبان الفرد في نظام الحياة المفروض من رأس الهرم. ولنا أن نعرف من هو الخاسر والحالة هذه.
لكن بعضهم يرى أن الثمن الذي تدفعه المرأة لبقاء هذا النظام ضريبة طبيعية للحفاظ على الأسرة من التفكك. وهذا ما يفسر أيضا الخشية من استقلال الأفراد وبناء وحدات أصغر ومحاولات القمع لكل من يخرج عن الأعراف، وبخاصة النساء – الحلقة الأضعف في هذا النظام. فلا يزال الاعتقاد السائد بأن المرأة لا تستطيع تكوين وحدة قادرة على الاستقلال وعلى تسيير أمورها بما يتناسب مع ظروف حياتها.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة البلقاء التطبيقية، د. حسين الخزاعي، لا يرى في استقلال الأفراد تهديدا لتماسك النظام الأسري. فالفرد الذي لا يعيش ضمن أسرة، ليس بالضرورة أن يعاني من العزلة. وما يحدث هو الإفراط في ضم الفرد، شابا كان أو فتاة، إلى الأسرة، ما يؤدي إلى الحرمان من الحريات المسؤولة.
ويقول: "إلى متى سنبقى نقول الأعين تراقب المطلقات. هل هي إذا سكنت لوحدها ستنسى أهلها؟ هذا الكلام مستحيل، 8% من الأسر الأردنية تعيلها المرأة لوحدها، ترملت ولم تتزوج وتعيش هي وأولادها، ليس سهلا ان تعيل المرأة 50 ألف أسرة، يجب ان لا نعيش الشخصية البارونية ونكون شكاكين".
ويؤكد الخزاعي ضرورة تغير موقف المجتمع من استقلالية النساء، ويتساءل: "لماذا لا تعيش المرأة التي تخطت الثلاثين من عمرها لوحدها وتأخذ الحرية المسؤولة التي حصلت عليها أثناء دراستها وعملها؟
مبرر وحيد
رغم الموقف الاجتماعي السائد المعارض لاستقلال المرأة في السكن، تبقى هناك بعض الفئات التي تحرص على تلقي المرأة تعليمها حتى وإن اضطرت للسكن بعيدا عن الأهل.
يقول الخزاعي: "نحن سمحنا للفتاة في بداية عمرها ان تستقل وتأخذ حريتها المسؤولة الكاملة في تعليمها، وخصوصا في دراسة الجامعة. فلماذا لا نعطيها الحرية المسؤولة لان تختار نوعية حياتها وبخاصة إذا تجاوزات فترة من العمر تكون فيها بحاجة إلى الاستقلال والراحة ووضع خاص للمرأة نفسيا وجسديا. المرأة في حاجة إلى بعض القضايا الخاصة بها وبخاصة بعد سن الثلاثين".
ويضيف: "بما أننا نسمح للمرأة ان تدرس في معان أو اربد وتعيش لوحدها ماذا اختلف من أمور بعد عودتها من الدراسة؟ وإذا سمحنا لها في فترة العشرينات ان تسكت مع صديقات لها في الجامعة لماذا نمنعها من ذلك عندما يصل عمرها إلى 30 سنة؟ حياة المرأة تتفتح بعد سن الثلاثين، وتمتلئ جدية ونشاطا وكدا وتعبا".
هكذا، تصير الدراسة لدى البعض المبرر الوحيد للاستقلال. هذا ما حقق لهنادي رغبتها بالسكن وحيدة: "قراري بالسكن لوحدي جاء تحت عنوان الدراسة. الاستقلال تحت مظلة الدراسة أمر مشروع أمام الأهل. بعدما دخلت التجربة وجدت أن المسألة ليست سهلة، لان الفكرة تبقى مطبوعة بكوني امرأة شرقية وأعيش في مجتمع متحفظ على سكن الفتاة لوحدها حتى لو كانت في عمر تستطيع فيه أن تقرر وتعرف مصلحتها".
قرار هنادي بالسكن وحدها، وإن كان للدراسة، لم يكن سهلا، لسبب بسيط هو أنه أمر لا يتعلق بها وحدها. فهي هنا في مواجهة مع مجتمع كامل، وليس فردا أو اثنين، أو حتى فئة ما.
تقاليد وأعراف
هل هو خوف من الحرية أم من كلام الناس، أم من التغيير وسلوك طريق جديدة تتناسب مع مسيرة التطور في المجتمع وسعي الفرد لتحقيق ذاته واستقلاله بغض النظر ان كان رجلا او امرأة؟
هند (35 عاما)، التي زاوجت بين الدراسة والعمل، تعتقد أن "الانفصال عن الأهل في نفس البلد هو المشكلة، لأن المجتمع سيسائل الأهل عن وضع المرأة، فيما لا يصير هذا لو كانت المرأة في بلد أخرى".
وتعتبر هند أن الحرية هي ما يخاف منه الأهل، وتقول: "فكرة ان تعيش الفتاة لوحدها تثير مخاوف كبيرة لأنها ستتجاوز معايير وتقاليد اجتماعية الأهل معنيون ان تسير المرأة وفقها".
وهذا ما يؤكده الخزاعي ملفتا إلى أن "بعض الانتقادات تأتي من قبل الأقارب وليس من العائلة، وهم الذين يؤثروا".
الخوف من نظرة المجتمع للخارجين عن تقاليده الراسخة بدا واضحا في قول هنادي وفادية وهند، ومن قبلهن أمل ونائلة. وهذا ما يعزوه الخزاعي إلى أن "80% من الحضر جاء من الريف، ومازال يتتبع العادات والتقاليد الريفية التي تمنع خروج المرأة وتنتقد خروج المرأة بعد ساعة متأخرة أو تشتغل في بعض المهن الحرة، وخصوصا إذا تعرضت إلى طلاق أو ترملت لذلك تكون الأنظار مسلطة عليها، ولهذا تخشى الفتاة من القيل والقال".
ويزيد: "في بعض مناطق عمان يوجد سيدات يعشن لوحدهن ولديهن الحرية الكاملة المسؤولة على الأقل".
وتؤكد فادية أن كثيرا من بنات جيلها يطمحن إلى الاستقلال بالسكن لكنهن يخشين التعبير عن ذلك، وتقول: "صديقاتي وزميلاتي يفكرن في نفس الشيء. ولكنهن لا يصرحن بهذا لأنهن خائفات من الاعتراف برغبتهن بالسكن لوحدهن لأنه قد يترجم في بال الناس على أنه بهدف ممارسة سلوكيات غير مقبولة اجتماعيا. لكن هذا ليس بالضرورة السبب، إذ يمكن أن تعيش المرأة مع أهلها وتتمتع بدرجة حرية اجتماعية أعلى، على أساس أن لا احد سيسيء الظن بها. لكن لو كانت لوحدها، فإن كل خطوة ستكون محسوبة عليها".
وهذا لم يمنع فادية من الاستمتاع بتجربتها بالسكن لوحدها، أو مع صديقاتها، أثناء فترات الدراسة، وتقول: "عندما سكنت وحدي شعرت بمسؤولية اكبر وان التجربة ليست سهلة بل أصعب، لأني عندما أكون مع أهلي أشعر بنوع من الاتكالية. الشعور الحلو ان اشعر أنني كبيرة ومسؤولة عن نفسي".
وتتابع: "لا أفضل ان أبقى مع أهلي حتى أكون مسؤولة عن نفسي ومستقلة وأدير حياتي وأكون مسؤولة عنها ولا أكون تحت وصاية احد. هذا الأمر يعني لي الكثير".
سكن الفتاة لوحدها لم يكن تجربة ممتعة لفادية وحدها. هند أيضا تعتبر تجربتها هذه مفيدة، وأعطتها المجال لتكون مسؤولة عن نفسها، وتشعر بالحرية التي لا تعيشها الفتيات عادة: "لم نتعود (نحن النساء) ان نعيش بحرية. الحرية غلبة. إذا كنت غير عارفة ماذا تريدي وممكن ان تذهبي إلى مسارات لا ترضيك، فإنها تجربة للطرفين، ليس للمرأة فقط، بل للشاب أيضا".
وتضيف: "في البلاد الأخرى يمكن ان تتفهم ماذا يعني انفصال المرأة، وعيشها لوحدها لن يكون ضريبة كبيرة بل اقل. نحن في مجتمع ينظر إلى الرجل بطريقة أسهل من البنت من ناحية السكن، وهذا الشيء مزعج وتضطر أحيانا ان تثبت العكس".