مقاومة التطبيع الثقافي
بين حين وآخر ، تطفو مسألة مقاومة التطبيع الثقافي على سطح الأحداث ، فتتسيد البيانات والندوات ، ويتحول السجال حولها إلى ما يشبه المزاد العلني الذي يشارك فيه المثقفون والسياسيون بحماسة منقطعة النظير ، فيعلنون النفير من دون أن تكون هنالك حرب ، ويشنون هجمات بالذخيرة الحية من دون أن يكون ثمة من يمكن تسميتهم بالأعداء ، ويختلقون مطبعين وهميين لغايات تبرير النفير وإيجاد فرص عمل سياسية في الوقت المستقطع ، وبهذا تتحول القضايا الوطنية ذات الحساسية العالية إلى مشجب نموذجي لتعليق البطالة السياسية المقنعة والمعلنة ، ويصير كشف تلك المواقف واجباً وطنياً لا يقبل التأجيل.
مقاومة التطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني ، هي قضية وطنية ، لكنها تحولت بمرور الوقت ، وبانطلاء حيل متعهدي المجابهة ، إلى سلعة وموضوع استثمار داخلي وخارجي ، ففي الوقت الذي لا تكف الحناجر عن توجيه اتهاماتها للمثقفين بالتطبيع ، نضبط بعضاً من أصحابها وهم يجالسون الإسرائيليين في صالات الفنادق ، وفي البيوت المغلقة ، في الوقت ذاته ، لا يتورعون عن اغتيال أنبل المثقفين والكتاب ، ورجمهم باتهامات التطبيع ، دون أن يذكروا كيف وأين ومتى تم ذلك ، فضلاً عن هذا ، فإنهم يبعثون بتقارير عابرة للحدود ، تتضمن أسماء كتاب يختلفون معهم في الرأي ، حتى لو كان موضوع الاختلاف حرف جر ، ذلك أن استثمار مقاومة التطبيع ، يقتضي خلق مزيد من "المطبعين" ولو بقوة الضجيج ، بهدف استكمال متطلبات ذلك النفير .
من الضروري أن يتداعى المثقفون والكتاب من أجل تشكيل جبهة وطنية تكون مهمتها الرئيسة هي إنقاذ "مقاومة التطبيع" ممن يتاجرون بها ويستثمرونها ويغتالون الكثير من الشخصيات الوطنية والكتّاب والمثقفين تحت لافتاتها ، عن طريق الفتاوى التي يصدرونها ، والتقارير التي "يفكسونها" كي يوهموا الآخرين بأنهم هم وحدهم ، الحريصون على مصلحة الوطن ، والقضية ، بل أنهم - لفرط عدائهم للعدو الصهيوني - يرفضون في كثير من الحالات أن يزاحمهم أحد على امتياز مقاومة التطبيع.
لقد أثبتت الأعوام الطويلة التي أعقبت ابتداء شوطنا مع مقاومة التطبيع الثقافي ، أن مثقفينا وكتّابنا قد استعصوا على هذا التطبيع ، ورفضوا كل أشكاله ، ليس بسبب ما يصدر عن تلك الحناجر من صراخ وصياح ، إنما لأنهم يعلمون - دون أن يعلّمهم أحد - بأن فلسطين لنا ، وبأن تحويل العلاقة مع الإسرائيليين إلى واقع ثقافي وشعبي ، يعني ضياع القضية والأرض والهوية.
مشكلتنا ليست هنا وحسب ، فالأمور أوضح وأبسط مما يراها الكثيرون ، المشكلة الحقيقية ، تكمن في أن أحاديث التطبيع تحولت إلى مادة للإستهلاك السياسي والثقافي شأنها في ذلك شأن اللبان ، وطغت على الأحداث الكبرى التي تستوجب اتخاذ ما يلزم من مواقف سياسية وثقافية باتت تشكل استحقاقا لا يجوز التنصل منه في غمرة حروب التطبيع التي يتم خوضها بأثر رجعي وبتكرار يدعو إلى السأم ، والمشكلة الأكبر هي أنهم يريدون اقناع الناس بأن البلد يزخر بالمطبعين ، ما يعني ضرورة وجودهم كمقاومين مُعْتَمَدين للذود عن حياض الأمة.











































