مقابر بين المساكن تبعث تلوثا على مجاوريها

مقابر بين المساكن تبعث تلوثا على مجاوريها
الرابط المختصر

* مطالبات بمد المقابر بالحزام الأخضر * عشوائيات البنيان أفرزت مقابر وسط أحياء سكنية *عدم الدفن المحكم للجثث يحوّل المكان إلى مكرهة صحية وبيئية * مقابر مهجورة تنتظر 40 عاما لإزالتها

 

في الوقت الذي تبحث الحكومة عن حلول ناجعة لدرء أي خطر قد يهدد بيئة الإنسان وانعكاساته السلبية على صحته؛ تظهر عشوائيات مقابر في مواقع متفرقة في عمان تبعث تلوثا على السكان المجاورين لها.

المقابر في ظاهرها لا تؤثر على بيئة الإنسان وصحته، لكن هذا ما لا يجده أصحاب الاختصاص بالرأي السليم بيئيا وصحيا طالما أن "إهمالا" في متابعة المقابر ووقوع الكثير منها داخل مناطق التنظيم؛ يجعلها أوبئة دفينة على مقربة من السكان. في وقت ينفي العديد من المسؤولين هذا ويتحدثون عن تراخيص مقابر خارج حدود التنظيم كحال آخر مقبرة شيدت وهي "سحاب الإسلامية".

جولات قام بها راديو البلد كانت كفيلة بوضوح صورة الإهمال لمقبرة "أم الحيران" وهي واحدة من المقابر القديمة الواقعة حاليا في منطقة التنظيم السكني جنوب العاصمة عمان.

 

على أن أمانة عمان الكبرى تنفذ مخطط عمان الشمولي منذ العام 2006 الساعية من خلاله ضبط إيقاع التنظيم والعمران في العاصمة وتخصيص مواقع للبنيان التجاري والسكني والصناعي، لكنه خلى من أي ذكر للمقابر، لتبقى مشكلة المقابر قائمة إلى ينتهي عمرها الزمني المحدد "إسلاميا" بـ40 عاما إلى حين امتلائها وتصبح "مقبرة دارسة" أي مهجورة.

ولا تشكل المقابر عند كثيرين بالمكرهة الصحية أمام ما يتحدثون عنه من تأثر نفسي أكبر، كونهم يلاصقون أماكن الموتى، بل يتحدثون عن ممارسات وتجاوزات تقع داخلها، في وقت يتحدث أخصائيون عن "تحول المقابر إلى مكاره بيئية وصحية في حال بقي الإهمال حاصلا داخلها".

بالعودة إلى مقبرة "أم الحيران" الواقعة قبالة شارع مادبا جنوب العاصمة عمان، حيث تمتد مساحتها إلى أكثر من 5 دونمات، وتعتبر واحدة من أقدم المقابر في العاصمة عمان، هي حاليا ملاصقة لسوق الخضار المركزي ومخيم الوحدات.

مواطنون وألم الروائح

شارلي إبراهيم 40 عاما يقطن في شارع خديجة بنت خويلد المتاخم لمقبرة "أم الحيران" يتحدث عن وجود روائح كريهة في منطقة مروره اليومي من المقبرة وتحديدا الجهة الغربية المطلة على الشارع مادبا الرئيس، يقول أن شعوره الدائم أن الروائح "تؤثر سلبا على السكان".

بهاء محمود 23 عاما، يشتكى من روائح كريهة تنبعث من عدة أجزاء من المقبرة القديمة، ورغم أنها تعتبر من مقابر العائلات المرفهة والتي بضرورة تلحقها الرعاية لكنها تشكل على الدوم مكرهة من جراء الرائحة، ليتأثر بها بعض السكان المجاورين لها. ويقول أن هناك محاولات حرق أعشاب داخل المقبرة ما تشكل أيضا أذية أخرى، وهذا كله يعود "لعدم وجود حراسة فاعلة على المقبرة".

الشاب عبد المنعم السحلي 25 عاما لازمه شعور الخوف من تكرار انبعاث روائح من المقبرة، ما استدعاه يوما إلى زيارة المقبرة في وضح النهار، ويقول: "كنت خائفا من عدم دفن الموتى بالصورة المثلى لكن ما كان هو رائحة طبيعية من المقبرة والتي يرقد فيها آلاف الجثث"، والمؤكد لعبد المنعم هو "موقع سكننا الخاطئ قرب المقبرة".

المهندس حسام صوالحة 36 عاما، يجد أن المشكلة في إهمال المقبرة من حيث النظافة، وما دفع الكثير من المرتادين إلى ممارسة سلوكيات سلبية أثرت على السكان المجاورين لها. وطلب صوالحة من الأمانة التحرك لأجل ضبط ما ذهب به الحال في المقبرة.

لا مكاره داخل المقابر

أمانة عمان الكبرى بوصفها المسؤولة عن كثير من المقابر بالشراكة مع وزارة الأوقاف، تتحدث وعلى لسان مدير البيئة والنظافة فيها، زيدون النسور، عن تحديات تواجهها في المناطق القديمة من العاصمة حيث البنيان سبق فترة التنظيم، "المقابر بنيت منذ فترة طويلة وسط استيطان السكان منذ سنوات في الأماكن المجاورة للمقابر".

يستبعد النسور أي روائح قد تصدر عن المقابر من باب أن الأمانة "غير مقصرة في متابعة أحوال المقابر والجهات ذات العلاقة"، فهناك عمليات نظافة روتينية في كل مقبرة "والمراقبة تخضع لإدارة عمليات متخصصة تتم بشكل منظم وتحت إشرافنا فنحن معنيون بتعشيب المقبرة وزرعها سعيا لتكون منطقة خضراء".

تحذيرات بيئية

مخططو المدن يبحثون دوما عن توسع سكاني منظم مستبعدين مواقع المقابر التي تخدم سكانها لكن العاصمة عمان لا تزال تتوسط في كثير من مناطقها المقابر. الناشطة البيئية ونائب رئيس جمعية البيئة الأردنية، سلوى الخيري، ترى أن ثمة إشكاليات بيئية تنطوي على ما يصدر عن المقابر من روائح، "الخطورة تكمن في الجثث غير المدفونة بالشكل اللائق وبحسب الشريعة الإسلامية أو المسيحية لتحجب أي روائح منبعثة".

"التلوث البيئي والصحي مقترنان بعضهما البعض من حيث التأثير المباشر على صحة المواطن"، وتقول خيري أن "للدفن شروط من حيث العمق والردم الممكن للحول دون انتشار أوبئة قد تصدر عن الجثة المتحللة".

 

وتضيف أن التلوث البيئي على صحة الإنسان "محقق" من عدم الدفن الجيد للموتى فهو يؤثر سلبا على بيئة المكان". وثمة صعوبات في نقل المقابر القديمة لكونها مرتبطة في جانب ديني منها بحرمة نقلها أو إزالتها إلا بعد مضي عشرات السنين.

وتبدي الخيري قلقها من تلاصق المقابر بالأماكن السكنية، وتقترح كحل مؤقت أن يكون هناك صيانة دورية للمقابر لحماية بيئتها وجعلها خضراء. وتطالب بتضافر الجهات ذات العلاقة من وزارتي الصحة والبيئة وأمانة عمان للنهوض بالواقع البيئي داخل مقابر العاصمة عمان سيما القديمة منها.

كما وتقترح "أن يتم التشجير المناسب والتعشيب المستمر والرعاية المسمرة كحل مؤقت للمقابر الموجودة بين المناطق السكنية". التشجير والتعشيب الذي تقوم به الأمانة، لا يرضي الخيري وتجد أن الواقع الحالي قد يهدد السكان المجاورين للمقابر، وتقول أن الأساس أن يكون هناك تنظيم يبعد أماكن السكن عن المقابر.

أمين عام وزارة البيئة فارس الجنيدي، يرى من جانبه أنه لا يوجد تأثيرات بيئية من المقابر ولا حتى لها أي ذكر في أجندة عمل الوزارة، ويقول لنا أنه "لا علاقة الوزارة بالمقابر، كل واقع المقابر لا يشكل لدينا أي تلوث بيئي"، معتبرا أن أولويات الوزارة الحالية تتركز في قضايا "الكسارات والمصانع المنتشرة عشوائيا".

الصحة وتأثير انبعاث التحلل

وزارة الصحة، من جانبها ترى أن ثمة إشكاليات في واقع المقابر المهملة، ويوضح د.بسام حجاوي مدير مديرية السلامة العامة في وزارة الصحة أنهم ينطلقون من كون قانون الصحة العامة يلزمهم اتخاذ جملة معايير في الإشراف على دفن الموتى.

قانون الصحة العامة لسنة 2008 وفي بند "دفن الموتى" في المادة 59 يفيد بأنه "لا يجوز دفن الموتى إلا في الأماكن المخصصة لذلك بموجب الأنظمة النافذة المفعول وذلك بعد توافر الشروط اللازمة للدفن".

ويقول الطبيب بسام حجاوي أن الوزارة تعمل استنادا على قانون الصحة العامة "لأن عملية الدفن إذ لم تكن بطريقة صحيحة خصوصا للوفيات الذين يموتون بسبب أمراض سارية كالإيدز، فالوزارة تتدخل في عملية الدفن لأنها تشكل خطرا في أثناء غسل الموتى وفي الدفن، غير ذلك قد يكون مصدرا لانتشار الأمراض السارية".

تناولت المادة60 صراحة من ذات القانون على وجوب دور للحاكم الإداري بناءً على أسباب صحية أو فنية يقدمها الوزير أو من يفوضه اتخاذ القرار اللازم بشأن ما يلي: منع إحداث أي مقبرة في أي مكان من أي منطقة تدخل ضمن اختصاصه، وإيقاف الدفن في الأماكن غير المخصصة لذلك.

أما المادة 61 من ذات القانون، تحدثت عن عدم جواز فتح أي قبر لرفع أي جثة أو رفاة منه إلا بأذن من المدير وبناء على طلب من المدعي العام إذا كان ذلك لمقاصد إجراء أي تحقيق. كما ولطبيب أو لأي موظف مفوض أن يتخذ الإجراء اللازم، إذا دعت الضرورة، لحماية الصحة العامة ولمنع سريان الأمراض الوبائية قبل دفن الموتى. كما ويتم نقل الموتى من المملكة إلى خارجها وبالعكس بموجب تعليمات يصدرها الوزير لهذه الغاية.

"ما يزعجنا هو بقاء المقبرة مفتوحة أمام الحيوانات الضالة والإهمال في نظافتها" يقول الحجاوي لكنه يستدرك في قوله "لكن الوضع تغير حاليا حسب ما نعلم". لوزارة الصحة خشية من عدم مواكبة القائمين على الدفن للمعايير الصحية في فتح القبر إذا استدعى الأمر، "لكننا نعول على التنسيق الدائم مع الإدعاء العام عندما يقرر فتح قبر ما للبحث عن أدلة في سياق القضية القضائية".

وفق رصد وزارة الصحة، "لم نسجل حتى الآن أية مخالفات في المقابر لأن قانون الصحة العامة يتدخل ويضع ضوابط خشية حدوث مكاره صحية وبيئية". ويذكر الحجاوي أن المحاكم تستشير الوزارة في طلبها الكشف عن حادثة ما استدعت فتح القبر مرة ثانية.

 

ويوضح أنه عندما تتحلل الجثة "تكون هناك أمراض طفيلية قد تسبب أمراضا خطيرة ومكرهة لكن لم نلق أي شكوى خلال إدارتي للمديرية طوال 10 سنوات".

القبر المحكم في إغلاقه لا تخرج الرائحة منه، يختصر حجاوي الحديث عن سلامة القبر وعدم نفاذ رائحة تحلل الجثث، "لكن لا نضمن تسلل حيوانات ضالة بنبش القبور لكن أشك أن يكون هناك تجاوزات".

ويقول الحجاوي أن المقابر منظمة في الأردن، هي تحت سيطرة حكومية واضحة "فلا أحد يدفن عشوائيا ولا يوجد دفن فردي أينما أرادت العائلة لابد من خلال المقابر المرخصة".

الدكتور منذر لطفي، نائب رئيس جمعية الأطباء الشرعيين، يقول من جانبه أن "الطب الشرعي يواجه مشكلة إذا لم تدفن الجثة بالصورة الحسنة خصوصا إذا كانت العائلة قامت بالدفن بصورة غير لائقة وذلك بعد دفنها في أماكن خارج المقابر وربما تطالها أيدي العابثين أو الحيوانات الضالة".

طبيا، تحدث تغيرات رمية في جثث الموتى ما تحيل أنسجتهم وتصبح متحللة من الأنزيمات الداخلية، بالتالي تستقطب الجثة ذبابا أزرق وديدان تجعل منها ذات رائحة نتنة وعفونة.

ويوضح الدكتور لطفي أن حال الجثة المكشوفة "قد يشكل تهديدا بيئيا للمكان من خلال انبعاث الروائح إلى البشر، لكن هناك أمراضا إذا وجدت في جثث متحللة تضاعف من الخطر، ويزداد التحلل بسرعة من خلال تأثرها بدرجة الحرارة وعند تحللها تحدث المكرهة في البيئة وما تنقلب تأثيرا سلبيا على صحة الإنسان من خلال الأوبئة التي قد تنتشر".

تغليف كامل للقبر وإحكامه في الإغلاق يقلل من خطر "تسرب التعفن وتحوله إلى مكرهة صحية"، يقول لطفي. وعلى ما يذهب إليه الدكتور لطفي هو عن خيارات دول صائبة في حرق جثث موتاها ويقولها صراحة "بعيدا عن رأيي الأديان، نعم الصحي هو حرق الجثث حيث نقطع الطريق أمام انتشار الأوبئة فيما لو حدثت أعاصير على سبيل المثال".

دور لأمانة عمان

تقسم مديرة صحة المجتمع في أمانة عمان الدكتورة ميرفت مهيرات، المقابر إلى أنواع تبعا لتصنيفها تتحدد صلاحيات أمانة عمان فيها؛ مقابر عامة تابعة لوزارة الأوقاف، ومقابر خاصة بالعائلات تشرف عليها الأمانة، ومقابر إسلامية لكنها تحت إشراف أمانة عمان.

تدخل عدة مؤسسات في مسؤولية متابعة شؤون المقابر، منها وزارات الصحة والأوقاف والداخلية؛ "الأوقاف تحدد في كون أنها مقبرة عامة والأمانة تحدد نوع التنظيم في كونها تصلح لتكون عامة ضمن اشتراطات محددة وهناك مواصفات مخصصة صحيا من قبل وزارة الصحة".

النظافة والاستدامة تابعة للأمانة، من خلال النظافة المستمرة للمقابر ومسؤوليات أقسام الأقاليم ضمن حدود الأمانة وهناك دور لمندوبي الأمن والحماية العامة من قبل الأمانة، وتقول الدكتورة ميرفت أن وزارة الأوقاف عليها المسؤولية أيضا في تقريرها المستمرة.

المهيرات تتحدث عن ضوابط لانتشار المقابر من حيث العدد في المناطق والأماكن؛ فالمقابر محصورة بين الأمانة بوصفها بلدية ووزارة الداخلية من خلال صلاحيات معطاة للحاكم الإداري كل في منطقة اختصاصه وأيضا وزارة الأوقاف.

 

الأوقاف والدور المطلوب

دور وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية يقتصر على الأملاك الوقفية والمقابر ضمنها كوقف خيري، لكن المتابعة والإشراف يقع ضمن صلاحيات وزارة البلديات وأمانة عمان.

المادة 40 من قانون البلديات لسنة 2007 وفي بند 18 يلزم الوزارة بـ"إنشاء المقابر وإلغاؤها ومراقبتها وتعيين مواقعها ومواصفاتها ونقل الموتى ودفنهم وتنظيم الجنازات والمحافظــة على حرمة المقابر".

 

بهذا البند يجد مدير دائرة الأملاك الوقفية في وزارة الأوقاف، مروان العتوم، في اقتصار دورهم فقط على "التأكد من حرمة الوقف". والمسؤولية على ما يقول لنا تشمل المقابر "الدارسة" وهي التي مضى على آخر قبر فيها مدة لا تقل عن 40 عاما ولم يتبق أي متسع من الأرض للدفن فيها.

حسب نظام الدفن والمقابر في أحد معاييره الرئيسة ينبغي أن تكون المقبرة خارج حدود التنظيم أو على الأقل واقعة متاخمة لحدود التنظيم، ولم يكن ذلك المعيار مطبق أو مفّعل سابقا لكن حاليا لا يسمح بناء أي مقبرة جديدة داخل التنظيم وينبغي أن تتخطى معايير حكومية من بلديات ومياه خشية وجودها قرب أحواض مائية ووزارة الصحة لتؤكد على المعايير الصحية.

ويصل عدد المقابر داخل حدود العاصمة عمان إلى 133 مقبرة، منها 128 مقبرة إسلامية تدار من قبل وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية و5 مقابر مسيحية تدار من قبل جمعية الروابط الإنسانية المسيحية، وكذلك وزارة الصحة والداخلية وأمانة عمان الكبرى. بينما تصل أعداد المقابر "الدراسة" أو المغلقة أمام الدفن في أنحاء المملكة إلى 200 مقبرة وفق وزارة الأوقاف.

حتى اللحظة لا توجد دراسات بيئة وطبية تتناول واقع المقابر ومجاورتها للمناطق السكنية، لكن المؤكد أن ثمة تأثير بيئي يتهدد مناطق المقابر التي تعاني من قلة التشجير والتعشيب، خلافا لما تجده أمانة عمان، ما يجعل المنطقة بيئة خصبة للحشرات والأوبئة على السكان المجاورين لها.