معارك «المعتدلون العرب».. من البث الفضائي إلى مزارع شبعا
معركتان متزامنتان يخوضهما "المعتدلون العرب"...الأولى، إعلامية، ساحتها الرئيسة جامعة الدول العربية في القاهرة، وهدفها لجم الإعلام الفضائي العربي المرئي والمسموع، أما ذريعتها فـ"تحرير" الفضاء العربي من السحر والشعوذة وما يسيء لتضامن الأمة وقادتها السياسيين ورموزها الروحانيين...والمعركة الثانية، دبلوماسية، ساحتها الرئيسة مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وهدفها "تحرير" مزارع شبعا وتلال كفر شوبا" المحتلة، وإعادتها للسيادة اللبنانية، بعد أن تمر بـ"مصفاة" الأمم المتحدة لفترة انتقالية.
المعركة في الجامعة العربية حسمت لصالح محور تقوده القاهرة والرياض، وتدعمه عمان وقلة من العواصم، بعد أن شّذت عواصم محسوبة تقليديا على الاعتدال العربي عن القاعدة وقررت "التغريد خارج سربها"، إن لم نقل الالتحاق بالسرب الآخر، والمفارقة أن "محور الممانعة، الديكتاتوري والشمولي" لم يبد حماسا للوثيقة العربية، بل وصوّت ضدها.
وبرغم الكثير من "اللغو" و"الهرطقة" اللتان حشدهما وزراء الإعلام العرب والناطقون باسمهم من كتاب وصحفيين لتسويغ الوثيقة وتسويقها، إلا أن أحدا لم يأخذ على محمل الجد، ذرائع هؤلاء وحججهم، فالهدف الأول والأخير من "وثيقة التنظيم" التي أنشئت لها "مفوضية" خاصة، وفصّلت على مقاسها، هو تكميم الأفواه، ومنعها عن توجيه النقد للزعماء وإظهار فشل سياساتهم وبؤس اختياراتهم، أما التلطي بمقاومة السحر والشعوذة والمس بأرباب الشرائع والرموز الدينية، فليست سوى ذرائع واهية لا تصمد أمام حقيقة أن بعض الدول العربية التي رعت المشروع بقوة وضغطت لإنفاذه، هي ذاتها الدول التي خاض إعلامها وإيديولوجيوها و"فقهاء الظلام" المحسوبين عليها، أبشع أشكال "المس" بأرباب كل الشرائع والمذاهب التي "تغاير" مذهبها الأقصوي، التكفيري والإلغائي.
فضائيات "الفضيلة" و"الرذيلة"، تصدر عن جهة واحدة، وتغذّى بمال يصدر عن مصدر واحد، وهي "احتجبت" جميعها عن الفضاء حدادا على روح راحل واحد، فلماذا هذا الاستغفال للمشاهد والمواطن العربي تحديدا، ولماذا لا يقول وزراء الإعلام العرب، أن "صداع الجزيرة" هو المحرك لإنجاز "الوثيقة" وتشكيل "المفوضية"، وليس الحرص على الذوق العام ومقاومة الخرافة والأسطورة والشعوذة والغيرة على الشرائع وأربابها.
مؤسف أن يصبح العمل العربي المشترك، مشروطا بإشاعة الاستبداد وتعميم أكثر أنماطه تخلفا وشمولية، في الوقت الذي كانت فيه "الحرية" متطلبا مسبقا لنجاح الأوروبيين في بناء منظومتهم الاتحادية، وشتان بين منظومة تبنى على الحرية والديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، ومنظومة أو بالأحرى "لا منظومة" تبنى على القمع والاستبداد ومصادرة الحقوق والحريات.
أما المعركة الثانية التي يتحضر معسكر الاعتدال في قادم الأيام، فهي معركة "تحرير" مزارع شبعا، التي مضى على احتلالها أكثر من أربعين عاما، دون أن يتذكرها أحد، بمن في ذلك معظم اللبنانيين، ولم تندرج إلا بعد أيار من العام 2000 (تحرير جنوب لبنان) في الأدبيات السياسية اللبنانية والعربية.
والحقيقة أن هذا الحماس العربي الظاهر لـ"تحرير" المزارع، يخفي هدفا آخر هو: "النيل من سلاح حزب الله ومقاومته"، امتدادا لنظرية "المغامرة غير المسحوبة"، واستجابة لما ارتأته وزيرة الخارجية الأمريكية مؤخرا حين أوعزت للأمين العام للأمم المتحدة بفتح هذا الملف، بالتنسيق مع القاهرة وباريس والرياض وبيروت، فالمطلوب اليوم هو إسقاط أي ذريعة يمكن أن يتسلح بها حزب الله للاحتفاظ بسلاحه، وفي هذا السياق، وفي إطاره فقط، تندرج هذه "الصحوة التحريرية" وفي هذا السياق أيضا، تندرج الاستجابة الإسرائيلية لصفقة تبادل الأسرى، وسنرى صبيحة اليوم التالي لوضع المزارع "وديعة" في عهدة قوات اليونيفيل، كيف ستتكاثف الحملات وتتصاعد الأصوات الداعية لنزع سلاح حزب الله، داخل لبنان وخارجه.
وإذا ما قدر لهذا المعسكر أن ينجح في إخراج المزارع من قبضة الاحتلال الإٍسرائيلي، فإن التاريخ سينسب الفضل في هذا النجاح لحزب الله وليس لدبلوماسية الاعتدال، إذ لولا هذا السلاح، لما استفاقت السيدة رايس على الحاجة لحل مشكلة المزارع، ولما استفاق من بعدها زعماء عرب كثر، ولما استذكرت الحكومة اللبنانية وائتلاف 14 آذار "لبنانية" هذه الرقعة من الأرض المحتلة، ولمن يساوره الشك فيما نقول، ندعوه للعودة إلى تصريحات قادة 14 المتكررة التي تنصلوا فيها من لبنانية مزارع شبعا،وحاولوا إلحاقها بسوريا مرارا وتكرارا، وندعوه أيضا للإجابة على سؤال: وماذا عن بقية الأراضي العربية المحتلة، ولماذا لا تتحرك "غيرة" الزعماء بذات القدر من الجدية والحماس و"الجدوى"، ولماذا لا تلقى "غيرتهم" الاستجابة الكاملة من واشنطن وباريس وتل أبيب (كما هو متوقع) ؟!.
* نقلا عن مركز القدس للدراسات الاستراتيجية