مرض وراثي نادر ينخر الأطفال

الرابط المختصر

مرضٌ لا يعرف المهادنة، يخترق العائلات ويخّلف ضحايا من الأطفال، لا يستهدف غيرهم. يبدأ بضمور العضلات وينتهي بالدماغ.بالوراثة ينتشر المرض، ولا تدرك العائلات ما معناه؛ ليقضي على أطفال العائلة، واحدا تلو آخر.     
   
نقص أنزيمات الدم نالت من الطفل "مؤمن" 10 سنوات. هو الآن طريح الفراش وبعيدا عن العالم، أما شقيقه الأصغر "نور الدين" 5 سنوات يخضع لعملية زراعة النخاع العظمي أملا بالقضاء عليه، فيما "محمود" الأصغر بين أخوته والذي لا يتجاوز التسعة شهور يعتبر آخر المصابين بالمرض.
 
هاني تيسير المغير 40 عاما، لديه سبعة أبناء يعاني ثلاثة منهم من فقدان الأنزيمات في الدم، وهذا المرض النادر غزى الطفل مؤمن قبل ثلاث سنوات، بدأ بوجع في إحدى قدميه وسرعان ما انتشر حتى وصل إلى الدماغ، محدثا الشلل له وأعطال متفرقة في الوظائف الأساسية بالجسد.
 
ويسمى المرض Metachromatic Leukodystrophy يعرف عالميا باختصاره "Mld" هو مرض وراثي، يحمله الأب والأم لأبنائهم وليس بالضرورة لكلهم "نسبة نقل المرض من الأهل إلى الأولاد متفاوتة ولا تتجاوز عن 25%" وفق تقديرات الدكتور محمود السرحان مدير مركز الحسين للسرطان.  ويؤدي نقص الأنزيم الضروري للدماغ إلى تعطيل الأعضاء الحيوية للإنسان ما يعطبه ويجعله غير قادر على التفكير أو الحركة، ليودي به في نهاية المطاف، أما العمر الافتراضي للمصاب فقد يصل إلى 15 عاما.
 
أكثر من السرطان
قصة الطفل مؤمن بدأت بوجع في قدمه ولتتطور حالته إلى العجز الدائم في القدرات العقلية "أذكر وقت إصابته لم نراجع إلا الطبيب العام الذي طلب منه وقتها ان يسير على خط مستقيم في كاريدور العيادة ولم يسر تماما، فقال راجعوا مستشفى الجامعة الأردنية، ولم أتوقع ان يكون هناك مرض لدى مؤمن وراجعت استشارية في الدماغ والأعصاب والدم والتي طلبت إجراء فحوصات عاجلة وعندها بدأت الكارثة".
 
نقص أنزيم في الدم يؤدي إلى اعتلال الدماغ، مؤثرا على المادة البيضاء وهي التي تشكل غلافا للدماغ، ما يؤدي إلى ضموره يوما وراء يوم، معطلا جهاز الحركة وشالا الجهاز العصبي. "هو كالموت البطيء، يبدأ بالضمور ثم الشلل وفقدان النطق إلى ان يصبح عاجزا عن فعل أي شيء" يقول والد هاني. 
 
المطلوب: فحوصات ولا توجد الإمكانية في الأردن..يلخص هاني ما حصل معه "فحص أنزيمات الدم المختصة بالدماغ غير متوفرة في الأردن وقد ازدادت حالة مؤمن سوءاً، أثناء ذلك حصلت على إعفاء من الديوان الملكي لأن يمولوا إيصال التقرير الطبي إلى بريطانيا وجاءت النتيجة إيجابية ولكن الطبيبة لا تريد إخبارنا بالمرض إلا بشكل مرحلي لأن حالته قد تطورت إلى الأسوأ".  
 
الصدمة الأخرى لعائلة هاني كانت عندما طُلب منه أن يخِضع كل أفراد عائلته للفحص الطبي وهذا ما كان إلا أن ظهرت النتيجة والتي شكلت "صدمة كبيرة جدا" فقد خلصت إلى نور الدين البالغ من العمر 5 سنوات ومحمود 9 شهور حاملين للأعراض المرض. 
 
ووفق تأكيدات التقارير الطبية التي أجريت في ألمانيا وبريطانيا فإن نور الدين مصاب مثل شقيقه مؤمن ولكن ليس في مرحلة أخيه المتقدمة. الآن يعتبر نور الدين سابقة في مركز الحسين لكونه ثاني شخص يخضع لعملية زراعة النخاع العظمي وحالته حتى هذه الفترة "جيدة" ومضى على إجراء العملية 4 شهور، ويخضع الآن للعلاج الكيماوي أسبوعيا.
 
هاني الذي كان يعمل مندوب مبيعات أصبح عاطلا عن العمل منذ رحلته مع مرض أولاده، ليقضي أيامه في التنقل بين مركز الحسين للسرطان ومستشفى الجامعة الأردنية والمركز الوطني للسكري والغدد الصماء ليعيش وأسرته على راتب يصرفه له صندوق المعونة الوطنية 170 ديناراً. هذا المبلغ "لا يغطي التكاليف المواصلات والإقامة والطعام، ولا استطيع العمل في عملي السابق".
 
وحصل هاني على إعفاءات لأولاده الستة من الديوان الملكي، حيث وافقت وحدة شؤون المرضى على منحه الإعفاء.
 
أما زوجة هاني فلا تجد معنى لحياتها أمام أطفالها الذين يسقطون واحدا تلو الآخر، "منذ سنتين ومؤمن طريح الفراش لا يتحرك أبدا، يفقد النوم في أغلب الليالي، ويتألم كثيرا ولا استطيع مساعدته. هو الذي كان أذكى أطفالي وأكثرهم نشاطا فرحتي فيه كانت مختلفة". تعتبر ان مؤمن ضحية لكونهم لا يعلمون عن المرض شيئا أما نور الدين ومحمود فهما الحسرة الثانية لها.
  
ولا توجد علاجات لهذا المرض الوراثي وإنما يمكن منح المريض خلايا جديدة عن طريق إنسان آخر يتطابق مع المريض في الخلايا بحيث يتوفر في النخاع العظمي الأنزيم الضروري للجسم، وهذا الحل الأنجع حاليا..على ما يشير الدكتور سرحان.
 
موت ثلاثة؟
إيمان خمش، لها قصة مختلفة عن عائلة هاني، فهي الأكثر دراية بالمرض الذي بدأ مشواره مع أطفالها عام 1996 مع أول أولادها خالد ولكونهم لا يعرفون ما هذا المرض الذي اجتاحه فما وجدوه هو وقوع ابنها خالد صريعا منه عام 1997 وقصتها بدأت مع طفلها الثاني محمد الذي توفي عام 2001 أما الثالث عبد الكريم فكان آخر أطفالها المصابين والذي توفي عام 2006 وجميعهم لم يتجاوزا عمر السابعة؛ ليبقى لديها وزوجها حسين كل من حمزة ووعد ورحمة.
 
حسين مدين الأب، تضرر من فقدان أطفاله الثلاثة، يروي ما حصل في سنوات حياتهم.."بدأ يتراجع خالد في التفكير والأداء سيء جدا في المدرسة ..ولا يكتب على السطر، نقلناه إلى مستشفى الملكة علياء وكشفوا عليه وشكلوا لجنة طبية لأجل الإشراف والوقوف على حالته وقالوا آنذاك انهم بحاجة إلى فحوصات وبعدها أخبروني ان وضعه اليوم جيد وغدا سيكون سيئا إلى أن تتدهور حالته حتى يصبح عاجزا عن الحركة".
 
"كان يتألم خالد كثيرا من رأسه. كنا نعطيه حبوب تخفيف آلام، ما حدا بنا الأمر إلى السفر إلى تل أبيب لأجل مداواة خالد في إحدى مستشفياتها، كان وضعه يتراجع".  
 
وتواصل الأم المكلومة سرد ما حصل مع أطفالها "توفي خالد عام 1997 ثم جاء طفلي الثاني محمد الذي كان يتميز بذكائه وفي يوم ما اتصلت معلمة الانجليزي وقالت انه ذكائه لا يشفعه من التعلم بسرعة..فكرت ان لديه ضعف نظر ولكن أعراض المرض بدأت تظهر عليه، مكتشفين ان حالته تتشابه وحالة الراحل خالد، هنا بدأنا رحلة بين المستشفيات أثناء متابعتنا لحالة محمد جاءني اتصال من المدرسة وصدموني بطفلي الثالث عبد الكريم وقال الطبيب ان حالته تزداد سوءً". 
 
"وقاموا بإجراء فحص لي وأنا حامل بالشهر الثالث أخذوا خزعة وعرضوها على وقالوا ان طفلتي قد تحمل جينات وان الفحص قبل الزواج غير مجد ولكن عليها ان تأخذ خزعة حال ان تزوجت".
 
لما الإنجاب!
"طالما ان هناك صفة وراثية فلا داعي للأسر أن تنجب أطفال آخرين" على ما يقوله الدكتور السرحان "المرض صعب جدا وعلاجه صعب وزراعة النخاع العظمي صعب ومكلفة جدا".
 
إذ تقبل الجسم الخلايا الجديدة بعد زراعة النخاع العظمي ودخول الأنزيمات "قد" تختفي معظم الأعراض وخاصة إذا كانت في السنوات الأولى من عمر الطفل، ليذهب الأنزيم إلى الدماغ ما قد يثبط المرض.
 
تشخيص المرض أمر ممكن وعند الولادة يتم فحص الدم، يقول السرحان. وخطورته تكمن في كونه قد يأتي مباغتا للعائلة فبعد ان تنجب ثلاثة وأربعة يبدأ بالظهور. "المرض نادر جدا ولم يشخص أبدا والمشكلة ان أكثر المصابين فيه هم الأطفال".   
 
وجود حالات بين عائلات أردنية مصابة، يشكل مدعاة لتحرك الأطباء "لأنه يعني أننا قد نواجه حالات أخرى" وفق السرحان "ولا توجد إحصائيات دقيقة عن هذا المرض وعن العامل الوراثي لهذا الجين تحديدا..فهو مرض نادر جدا". السرحان أجرى سبع عمليات في أمريكا زرع فيها نخاع عظمي تشابهت أحوالهم المرضية مع حالة أطفال هاني.
 
دراسات وأبحاث
"لا توجد أبحاث في الأردن خاصة بالمرض ومعظم الفحوصات تتم في أوروبا الغربية وأمريكا وهناك علاجات عن طريق إعطاء الأنزيم بالحقن لكنها مكلفة جدا وتتجاوز الـ100 ألف دينار". يقول الدكتور السرحان ويرى ان المرض خطير جدا، "يأخذ مجراه إلى أن تسوء حالة الطفل لأن يصبح فقط يعيش على النبض؛ هو عبارة عن مرض عضال طويل الأمد لا شفاء منه".
 
الدكتور محمد الطراونة، مدير دائرة الأمراض غير المعدية في وزارة الصحة، يوقن ان ما يرصد للبحوث من أموال "ضئيل ومحدود" لكنه يلفت إلى ان الوزارة تتداعى إذا ما كان المرض نادر الحدوث وله صبغة وراثية "هنا ندرس الحالات عن طريق فريق مختص يقّيم الوضع ويوصى بلجنة لإجراء بحوث في هذا المجال". واعدا بتشكيل لجنة لدراسة حالة مرض عائلة هاني وحسين.
 
في الأردن، هناك تقصير في مجال البحوث العلمية والطبية، مطالبا الطراونة ان تقوم كليات الطب في الجامعات الأردنية بدعم البحوث الطبية. أما عن المواطن فأهاب بالذين تتكرر لديهم حالة مرضية ما، ان يراجعوا مكتب الاستشارات الوراثية في وزارة الصحة أو المركز الوطني للغدد الصماء والسكري حيث يتم تقديم المشورة الوراثية لهم بعد وضعهم بالصورة أو احتمالية وقوع المرض.
 
ويطالب الدكتور السرحان بضرورة إيلاء المؤسسات الطبية أهمية كبرى للأبحاث كما ان هذه الحالات بحاجة إلى "تسجيل والتوثيق".  
 
لدى الأردن –على ما يؤكد الطراونة- مختبرات وراثية وفيها تتم دراسة خريطة الجينات وفيها إمكانية إفادة الأهالي لتقديم المشورة لهم. ورغم ذلك، تبقى تكلفة إخضاع الأفراد للفحوصات تناطح الألوف من الدنانير، وفي الغالب لا يقوى أصحاب السيرة المرضية الوراثية على تلك التكاليف الباهظة؛ وفي الوقت نفسه لا توجد مؤسسات تمول البحوث العلمية والطبية، ليضحى الحراك الطبي في الأردن صريعا للأحوال الاقتصادية.    
        
عمليات زراعة النخاع العظمي، تجرى في المدينة الطبية والجامعة الأردنية بالإضافة إلى مركز الحسين للسرطان الذي يعتبر الوحيد الذي يجلب خلايا جذعية من أوروبا لأجل إجراء العملية التي تكلف أموال باهظة.