مرحلة ما بعد القرية الكونية

الرابط المختصر

نجحت وسائل الإعلام السريعة بسلب أذهان الناس منهم، فراحوا يتراكضون خلفها مرددين مجموعة الكلمات الملونة ذات العمر القصير ، كتلك السلع عديمة الجودة الرائجة في الأسواق المبهرة.هكذا الناس ينبهرون ، و لا يتفقدون رؤوسهم بماذا ملئت و لماذا ملئت، طالما أن الطعم لذيذ و اللون زاهٍ و الاسم يحمل إيحاءات تعبث بمكبوتات النفوس. و ضمن هذا اللمعان العابر للحدود و الآفاق ، جرى تفهيمنا بالليل و النهار أن العالم أصبح قرية واحدة تسمى القرية الكونية ، و راح الجميع يردد قرية كونية  قرية كونية !   أسعدتنا التسمية للوهلة الأولى فنحن سكان هذا الكوكب في غالبيتنا أبناء قرى أو ذوي جذور قروية ، وانتظرنا من قريتنا الجديدة أن تعيدنا الى دفء القرى و تضامناتها و ديمقراطيتها المباشرة و حكمة شيوخها.   لكننا بعد قليل  جداً من الوقت ، فوجئنا هنا في آسيا و هناك في أفريقيا و أمريكا اللاتينية وفي أجزاء واسعة من أوروبا و أمريكا الشمالية، فوجئنا بأننا تعرضنا للخداع ، فالقرية المبشر بها ليست القرية التي نعرفها، إنها قرية تقوم على تعميم الجوع و الخوف و العطش لمصلحة المختار و شبكته المختارة ، وهي تقوم على تعميم التلوث ليس في الأرض فقط و لكن أيضاً في السماء و ليس لديها أية خدمات للنظافة أو الوقاية من السموم . و في هذه القرية تتضامن قلة قليلة جشعة بشعة ضد أغلبيات يجري تفقيرها بصورة منهجية منظمة و إذا اشتكت يوماً بؤسها قيل لها أن السببب هو ثقافة العيب!   أن هذه القرية تدعي كل صباح حماية حقوق الأنسان و الطفل و المرأة و الفقراء و السجناء و المسنين ، لكنها في الميدان ، لا تنتهك حقوق هذه الفئات فقط ، بل تنتهك حقوق الجميع باستثناء القادرين على الإفتراس .   إنها قرية يتحول كل سكانها الى قلة تفترس و كثرة تُفترس تماماً مثل غابة كونية. فهل هناك من لا يزال يصدق قرية حقوق الإنسان و هو يرى علناً الإطفال يباعون بقليل من المال في أكثر من مكان و هل هناك من لايزال يصدق قصة حقوق المرأة و هو يرى بعيونه كيف تتحول المرأة جهاراً نهاراً الى مجرد دمية تبتسم كهربائياً عند كل باب، و تكشف عن المزيد من أجزائها تملقاً للعابرين لتسويق بضائع مزيفة.   من هذا الذي يصدق تلاقح الثقافات ، و التسامح و الغفران و حوار الحضارات و الأديان ، و هو يرى القرية الكونية تبعث من جديد كل إحن الماضي المنسي بين الشعوب و الأثنيات ، حتى تمزقت كل المجتمعات و ازدهرت في أحشائها كل الهويات الفرعية المتخاصمة .   و من هو الذي يرسم الأنبياء و الفلاسفة على هيئة قتلة و شهوانين ، و يعلي من شأن اللصوص و القتلة و الكذبة و تجار السلاح و الدم ، أليست هي القرية الكونية التي تفعل ذلك ! أليس أطفال القرية الكونية هم الذين يجري حقنهم بكتب التاريخ المزور التي تصور الأخر بأنه بربري و قذر و مدمر و مخيف، لمجرد أنه الآخر المختلف .   و هل انتشر الكذب يوماً كما انتشر اليوم في رحاب قريتنا الكونية المزعومة ، التي تتفوق على كل القرى بتطوير الكذب و تبضيعه و تغليفه بشيء يشبه الحقيقة و تسويقه عبر الحدود، حتى راحت كافة المجتعات المخترقة في العنق ، تشتري البضاعة المزيفة و تلتهمها بسرعة، فأصبح لدينا في كل مكان مؤسسات متخصصة بالكذب تسمى أحياناً مكاتب الإعلام و العلاقات العامة، مهمتها فقط استيراد الأإكاذيب و تسويقها على مجتمعاتها مرفقة بوصفات الانفتاح و الشفافية و المشاركة و التمكين و بقية ما يقال كل يوم ، حتى صار للكذب معاهد تدريبية متخصصة تعطي دروسها باللغة الكونية ، و تتفوق فيها شركات خاصة تقول لنا علناً ان ديجول و تيتو و نهرو و ايزينهاور و بومدين ، ما هم إلا جماعة من الجهلة المتيبسين الماضويين و أن كل ما جاء في سيرهم ما هو إلا أساطير الأولين.   حسناً .. دعونا ننتظر قليلاً ، فحسب منطق القرية الكونية نفسها فنحن نعيش عصر السرعة و العوالم المفتوحة ، دعونا ننتظر قليلاً من الوقت ، لنرى ماذا سيحدث غداً .. فهل سيعم الخير أرجاء قريتنا الكونية أم ستطلع الشمس و يذوب الوهم بسرعة لنكتشف أننا تعرضنا لخسارة كونية أصابتنا جميعاً في الصميم.