محمد يعرف كيف يتحايل على السرطان

الرابط المختصر

أن تصفه بالظاهرة الثقافية، ليس بالأمر السهل، لكنه ظاهرة ثقافية بحد ذاته، يعطيك بمقالاته جرعة من الواقعية والصدق، والصدق الجارح، دون مجاملات أو ملطفات، يجسد لك الواقع الاجتماعي بكافة تجلياته.قد تجده منزعج أو ساخط من قضية ما، لكن، يبهرك أولا وأخيرا ببلاغته الأدبية وتشبيهاته الخلاقة ولغته السلسة وإبداعه في التلاعب بمكنوناتها، وروحه الساخرة الناقمة الحزينة الفرحة الضاحكة.



نحن نتحدث بالتأكيد عن محمد طمليه، ذلك الشاب اليافع الذي أعتقل مرارا بسبب مواقفه السياسية في فترة دراسته اللغة العربية في الجامعة الأردنية في السبعينات.



يكتب للسماء الزرقاء والماء الجيد والناس والبيوت والأصدقاء والأحبة، ويتغلب على المرض بشراسة وقوة بل ويعانده ويصادقه.



محمد طمليه ذاك الصحفي العبثي، الباحث عن البساطة والواقعية، لم يثنه السرطان النيل من عزيمته بل استطاع في هذه الفترة أن يكتب مقالات تركت أثرها عند من يقرأها واستطاع أن يطور لغته ويكثفها، متحدياً المرض، اللغة، التقليد الذي ساد في المقالة الصحفية فهي تتشابه بين الأدبية والسياسية.



هي جرأة بالنهاية، ومحاولة الخروج عن المألوف والغريب، تلك هي كتابات محمد طمليه.



تقرأه صباحا ومساءً، فمقالاته مشروع رواية أو قصة قصيرة، برأي أكثر الأدباء. ولا يمكنك إلا أن تعود إليها مرة أخرى وأكثر.



كلماته قصيرة معبرة، لا تُرمى جزافاً، وله من الإصدارات القصصية الكثير. وفي الرواية يقول لنا "أعكف حاليا على كتابة رواية سوف أفرغ منها في غضون أربعين سنة قادمة".



من إصداراته القصصية نذكر: جولة عرق 1980، الخيبة 1981، ملاحظات على قضية أساسية 1981، المتحمسون الأوغاد 1984، ويحدث لي دون سائر الناس 2004 بالتعاون مع الرسام عماد حجاج.



يكتب عن الرونق والنظافة والنقاء والسماء...وعندما تكون في منتهى الزرقة، عن الهواء الطلق والماء الجيد وعن موجة منضبطة تستجيب إذا نودي إلى مد وجزر في غير أوقات الدوام... أريد أن أكتب عن كل ذلك...يقول طمليه...وبرأيه أن الإنسان "الإنسان هو إنسان، حتى وإن كان في أي مكان في العالم. إذا كان إنسانا طيباً وإذا كان حريصا على بقاء الحياة نظيفة".



"أعداء الحياة يخربون الحياة".



ما الجديد الذي قدمته؟

"نحن لم نقدم جديداً. الحياة قدمت نفسها وتقدم نفسها يومياً بشكل دمار وخراب سواء في فلسطين والعراق أو في كل بقعة من بقاع العالم الملتهبة، والتي فيها ظلم وسفله. وأرجو أن تظهر هذه الكلمة".



"متنا بما فيه الكفاية، ونموت يومياً، ولكن المثير للسخط هو أن موتنا ما يزال بدائياً ومتخلفاً ويحدث بسهولة متناهية وبما يوحي أننا عجزنا عن تكديس خبرات مفيدة في هذا المجال: كأننا نموت للمرة الأولى" يكتب طمليه في إحدى مقالاته.



منغمس محمد بالصعلكة والعبثية، بأوجاع الناس وحياتهم: الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية. مجموعته القصصية "المتحمسون الأوغاد" ترسخ لدى الكثير من القراء والأدباء والنقاد. فرغم أهمية أعماله القصصية، ظلت هذه المجموعة الأشهر والأكثر إقبالاً، حيث اُعتبرت علامة في تاريخ القصة القصيرة في الأردن، فدقة الوصف والتشبيه والبلاغة صفات ألصقت على كتاباته وباتت تميزه عن غيره من الكتاب.



الاحتلال ليس بالضرورة أن يكون مادياً، وعند طمليه "الاحتلال ليس بالضرورة أن يكون عسكرياً أيضاً. الاحتلال يبدأ في البيت والمدرسة والزوج والزوجة. واللهاث اليومي وراء رغيف الخبز هذا أيضا احتلال".



الأردن بين احتلال إسرائيلي لفلسطين وأمريكي للعراق، "ياريت وقفت على احتلالين. بكل بساطة، وعلى الأقل هناك احتلال واضح وصريح، ونحن متقاعسين عن مواجهته، لكن الاحتلالات الأخرى تعيقنا عن التنبؤ لكيفية التخلص ومقاومة وردع ودحر هذين الاحتلالين".



تربط طمليه بفنان الكاريكاتور عماد الحجاج علاقة مميزة، يقول عنها "سوف أحرص على صداقة هذا الفنان المبدع، لأنه مبدع فقط. هو كإنسان حيوان، ولكنه مبدع حقيقي، ولسوف يكون لنا مشروعا مشتركاً قريبا، لكنه سيكون عربياً هذه المرة، أي يشارك فيه رسامو كاريكاتير عرب، يتمتعون بالموهبة ويتفقون معنا في نظرتنا إلى الحياة".



القاص إبراهيم جابر صادق طمليه في أواسط الثمانينات، في صحف الدستور والعرب اليوم، ومن وجهة نظر إبراهيم جابر أن طمليه ليس كاتبا ساخرا كما يشاع "من وجهة نظري على الأقل، فهناك كتابة جادة جداً كما كتابات محمد طمليه وكتابة بيضاء بلا لون محايدة لا تتوخى النقد الحقيقي، وهذه التي درج على تسميتها المجتمع خطأَ ومجازاًً".



"محمد طمليه استطاع أن يمتلك لغته المتفردة والمختلفة بين جميع الكتاب في الأردن، وهذه اللغة ليست بالضرورة أن تكون لغة ساخرة أو ناقدة فهي أحياناً أدبية نثرية تقترب من الشعر، لكن الاختلاف والتميز الذي حصل عليه محمد من البداية جعل جمهوره يرحب بأية مقالة يكتبه، حتى وإن لم يفهم أغلب أو كل هذه المقالة أيا كان موضوعها ولغتها ومفرداتها مقبولة دلى القارئ".



ويرى جابر أن محمد طمليه هو الكاتب الأكثر شعبية في الأردن وهذا يرجع إلى "محبة القراء لكتابة مختلفة تغاير النمط السائد وتبتعد كثيرا عن الوعظ والإرشاد والأستذة التي يتحلى بها أغلب الكتاب الصحفيون".



عماد الحجاج رسام الكاريكاتير الأشهر في الأردن والعالم العربي، صديق طمليه من عشرة سنوات وأكثر يستذكر تلك الأيام، قائلا "محمد كان من الناس القلة الذي التفت إلى موهبتي وفني. كان له دور كبير في تحفيزي وتشجيعي، وعن النظرة إلى الفن ورؤيته".



رب أخ لك لم تلده أمك، يرى الحجاج هذه المقولة تنطبق عليه وعلى محمد طمليه تماماً، ويقول حول تعاونه معه في إصدار كتاب (يحدث لي دون سائر الناس) "قبل إصدار الكتب كنا نتحدث أنا ومحمد وبصدف غريبة تحدث فمثلاً كثيرا ما رأى محمد رسومات لي تحوي له بمقالة ذات الفحوى، وبالمقابل كنت أجد الكثير من مقالات محمد أجده يسبقني إلى نفس الموضوع واللقطة والمفارقة لذلك جاء هذا الكتاب كتتويج لهذا التقارب والتماثل في المواقف".



وبمقابل ذلك، يكتب الدكتور محمد عبيد الله عن تجربة طمليه كقاص في الصحافة، ويقول "من المؤسف أن تجربة طمليه توقفت عند هذه المجموعة المتحمسون الأوغاد إذ أنتقل للصحافة فكسبت كاتبا محترفا بخبرة سردية ورؤية ثقافية، فجمع بين عناصر الصدق والسخرية وتتمظهر أحيانا بفظاظة ظاهرية ليست أكثر من قناع أو خط قناع".



كتاب (يحدث لي دون سائر الناس) يضم في كل صفحاته مقالاً لطمليه يقابله رسما كاريكاتوريا لحجاج، وتتشابه الموضوعات، ويقول الحجاج حول هذه التجربة، "الكثير من محتويات هذا الكتاب لم تكن مقالات ورسومات، كتبت ورسومات عن قصد؛ فالكثير منها كانت متباعدة في مدتها الزمنية. لذلك وجدنا أن تستحق أن تنشر بين دفتي كتاب واحد".



ويعود إبراهيم جابر ويقول "محمد طمليه استطاع أن يقترب إلى الشارع الشعبوي، والابتعاد كثيرا عن النخب والبحث عن اللغة والموضوع النخبوي. استطاع أن يتقرب إلى هؤلاء الناس بالعبارة البسيطة وهي ما أهلته فيما بعد أن يراوح في كتابته بين اللغة الخاصة التي تفرد بها واللغة البسيطة معتمدا على تقبل القارئ بأي كتابة يكتبها".



تعرفت على محمد بنصه قبل شخصه، يتحدث رسام الكاريكاتور ناصر الجعفري، ويتحدث عن شخص طمليه "مهذب رقيق، ولبق التعامل مع جميع الناس، قريب من الناس، وبالتالي كان يشكل علاقة قوية مع الناس، سعيد بمجاورتي معه في نفس الصفحة، بالعرب اليوم".



من المؤسف أن يطال هذا المرض روح رائعة ومتوهجة ومبدعة كروح محمد طمليه، يقول عماد الحجاج حول مرض صديقه، "حتى أثناء مرضه لازال يتمتع بنفس روحه الساخرة واندفاعه وحبه للحياة وكأن شيئاً لم يحدث. وعندما تحدث معه لأول مرة بعد علمنا بمرضه، كنت متجهما وحزينا وكان يقول لي ما بك حزين وكأنه لم يحدث شيء، أتمنى أن لا يفقد محمد طمليه حضوره الرائع".



تنامت أوصال الصداقة بين طمليه وموظفة صف مقالاته على الكمبيوتر بالعرب اليوم، أحكام الدجاني منذ فترة. تتحدث أحكام عن علاقتها بطريقته بالكتابة على الورقة، "أقرأ له بشكل يومي، وعندما علمت بمرضه أصبت بإحباط، ظلت متواصلة معه منذ طباعة كتاب له. محمد إنسان بسيط جداً يحب الجميع أتمنى له السلامة".

زوروا صفحة برنامج برائحة القهوة لقراءة المزيد

أضف تعليقك