مجلس النواب "الممكن" في المرحلة القادمة

الرابط المختصر

تبدأ الصعوبات التي تحيط بموضوع هذه المداخلة من العنوان ذاته، فالزملاء في وزارة التنمية السياسية وضعوا عنوان "مجلس النواب الذي نريد للمرحلة القادمة"، وهو عنوان أتحفّظ عليه ..

فالمجلس الذي نريد لن يأتي بالضرورة في سياق الشروط الحالية البادية للعيّان. لذلك لجأت إلى تحوير في العنوان كي يكون أكثر واقعية ومصداقية بوضع كلمة "الممكن" محل "الذي نريد"، فالممكن هو السقف الأعلى للتوقعات الواقعية، كي لا يكون حديثنا بمثابة تنظير معلّق في الهواء، لا علاقة له بما يجري على أرض الواقع، فنبدو وكأننا نعاني من حالة فصام مع انفسنا. ولذلك أعتقد أنّ القيمة المضافة التي يمكن أن تقدّم في هذه المداخلة هي العمل على تجسير المسافة الفاصلة بين ما نريد وما هو ممكن.

في البداية؛ لا بد من العودة سريعاً إلى الأسباب التي تدفع إلى حالة التشاؤم الكبيرة والواضحة لدى الرأي العام من مخرجات الانتخابات النيابية القادمة، هذا التشاؤم يقوم على أساس متين وقراءة واقعية صحيحة لحالة التراجع المستمرة والملحوظة في دور وأداء مجلس النواب خلال السنوات السابقة.
 
وإذا قّدِّر لنا أن نقدّم انطباعاً سائداً لدى نخبة إعلامية وسياسية معتبرة فإنّ القراءة تشير إلى خط بياني منحدر باطّراد في تقييم مجالس النواب منذ عودة الحياة النيابية 1989 مع المجلس الحادي عشر إلى المجلس الأخير الرابع عشر 2003، فكل مجلس لاحق هو أضعف من المجلس السابق، وهي الملاحظة التي انعكست بوضوح على تشكّل نزعة ملحوظة وسائدة لدى الرأي العام تقلّل من شأن مجلس النواب ودوره العام سواء في صنع السياسات أو في الدور التشريعي والرقابي، أو كمدخل من مداخل الإصلاح والتغيير السياسي، الذي يطمح إليه الشعب.
 
الأداء البرلماني: بيانات ومؤشرات
مظاهر التراجع والأزمة في أداء مجلس النواب بدت واضحة خلال المجلس الأخير، فقد تراجع دوره في الحياة السياسية، وحلّت المصالح الخاصة والمطالب الخدماتية على أجندة النواب، محل الدور التشريعي والرقابي العام. فالأصل في المطالب الخدماتية أو الإقليمية (المحافظات) ان تصاغ في قالب تنموي في سياق عام متكامل. لا أن تترك "لشطارة" النائب وعلاقاته بالحكومة أو شبكة المعارف في الدولة.
 
 في المحصلة لا توجد بصمة إيجابية حقيقية واضحة للمجلس يمكن الحديث عنها في مسار التحوّل الديمقراطي. فالعبرة ليست مرتبطة بكم التشريعات التي اجازها المجلس، لكن بمناقشات المجلس الموضوعية وتعديله على المشاريع المقترحة للقوانين القادمة من الحكومة، والعبرة ليست بعدد الأسئلة والاستجوابات، إنّما بالعائد العملي الحقيقي من هذه الاستجوابات والأسئلة.
 
أسوأ صور الأزمة النيابية تتبدّى من خلال تهافت النواب على السفر الخارجي والمصاريف الكبيرة التي اخذت من ميزانية المجلس لهذه الرحلات، وكثير منها غير مبرر، ويأتي على حساب اهتمام النائب بقضايا الأمة الأساسية. إذ أشارت وثائق مجلس النواب السابق (لغاية 2006) أنّ 107 نائباً أمضوا ما يزيد على (3500) يوم في سفر خارج المجلس وعلى نفقته، خلال الثلاث السنوات الأولى من عمره. فيما بلغت قيمة تذاكر السفر، خلال تلك الفترة، (413712) دينارا تقاضها مكتب واحد للسياحة والسفر!
 
وبرزت أيضاً قصة التغيب عن جلسات المجلس النواب وغياب التحضير الحقيقي للموازنة، والاهتمام أكثر بمصالح النواب الخاصة وامتيازاتهم ورواتبهم ومياوماتهم على حساب الاهتمام بالطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تخضع لشروط اقتصادية قاهرة.
 
لسنا هنا بصدد تقييم مجلس النواب خلال السنوات السابقة، لكن المقصود هو تفسير نزعة التشاؤم وعدم الرضا الواضحة من الرأي العام عن آداء المجلس وعطاءه. ويمكن المرور سريعاً على بعض نتائج استطلاعات الرأي للتأكيد على أنّ المجلس يفتقد إلى الرضا والقبول الشعبي، على الرغم أنّه الممثل "المفترض" للشعب والأمّة!
 
مجلس النواب في ميزان الرأي العام
وفقاً لاستطلاع رأي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية عام 2004 لأداء مجلس النواب الحالي فإنَّ 39% فقط من المستجيبين فقط كانت راضية عنه، ويعتقد ثلث المستجيبين فقط أنّ المجلس كان ناجحاً في سنّ قوانين لمعالجة مشكلة البطالة وسن قوانين لضمان الحريات العامة، مع التذكير أنّ هذه النسبة كانت في عام 2004، أي قبل ارتفاع معدّل التخضم والأزمة الاقتصادية المرتبطة بأسعار الوقود ورفع الدعم، وحتى قبل الأزمات الأخيرة المرتبطة بالثلج والتلوث ودور مجلس النواب الرقابي بهذا الشأن، والتي من المتوقع أن تؤثر على استطلاع للرأي يعده حالياً مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية بعد حل مجلس النواب.
 
وكان 69% من المستجيبين – في الاستطلاع- يعتقدون أنّ النواب كانوا اكثر اهتماماً بمصالحهم الشخصية والعائلية، في حين رأى 18% فقط أنّ المجلس أكثر اهتماماً بمصالح المجتمع والبلد ككل. وتتبدىّ المفارقة التي يشير إليها استطلاع أجراه المركز عام 2003 حول أثر غياب مجلس النواب لمدة سنتين (منذ عام 2001- 2003) على المستجيبين؛ فكانت النتيجة أنّ 64.3% لم يشعروا أنّ غياب المجلس قد أثّر عليهم، بمعنى أنّه لا دور يذكر أو ملحوظ للمجلس لدى هذه النسبة الكبيرة في الاستطلاع. في حين أفاد فقط 25% أنهم شعروا بغيابه، فيما أفاد 2.4% أنّ غياب المجلس أثّر عليهم إيجاباً.
 
أمّا استطلاع الديموقراطية عام 2006، فلم تختلف النتائج بصورة ملفتة، إذ رأى 50.5% أنّ مجلس النواب لا يمارس صلاحياته الرقابية على الحكومة، فيما رأت نسبة 32.3% أنّ المجلس يمارس هذه الصلاحيات. أمّا نسبة الراضين عن أداء المجلس فقد بلغت فقط 36.9% من المستطلعين، ونسبة من يعتقدون أنّ المجلس نجح في سن قوانين تحارب ارتفاع الأسعار فقد بلغت فقط 18.4%، وهنالك انطباع لدى ربع المستجيبين فقط أنّ المجلس كان ناجحاً في سن تشريعات تحارب البطالة والفقر والفساد.
 
هذه وجهة معبّرة ترصد موقف المزاج العام السلبي من مجلس النواب، وتلقي بظلالها على العملية الانتخابية الحالية، وعلى مدى الحماس السياسي لها، فمن الواضح أنّ الحراك الانتخابي الحالي ليس مرتبطاً بمناظرة سياسية وطنية ولا بمقاربات متضاربة أو متنافسة في رسم المسارات السياسية العامة، إنم هو حراك ديناميكيته الرئيسة قائمة على المعايير الاجتماعية والطموحات الشخصية أو الفردية، ومن الواضح تماماً أنّ المعيار الاجتماعي (الخدماتي، الزبوني،...) هو الذي ساد خلال العمليات الانتخابية الأخيرة.
 
ولعلّ المشاركة الحزبية الرسمية في الانتخابات تظهر بصورة سافرة تواضع الشأن السياسي، إذ تشارك جبهة العمل الإسلامي فقط بقائمة شاملة (22 مرشحاً)، في حين يدخل التيار الوطني الديموقراطي بقائمة متواضعة (7 مرشحين)، وباقي الأحزاب والقوى السياسية (من ضمنها المؤيدة للحكومة) فلم تجرؤ على "تحدي سلطة العشيرة" ويشارك أفرادها أو المقربون منها بصورة منفردة باسم العشيرة والمنطقة، وعلى أساس خدماتي- اجتماعي لا سياسي.
 
"النكسة البرلمانية": الأبعاد والأسباب
لو أخذنا تجربة مجلس النواب الحادي عشر، أي المجلس الأول بعد عودة الحياة الديموقراطية، فقد كانت تجربة متقدمة سياسياً بصورة واضحة للغاية مقارنة بالتجارب اللاحقة؛ وشهدت تلك السنوات "مناظرة سياسية" كبيرة في المجلس ومناقشة قضايا فساد وتعددية حزبية وسياسية وأصوات جريئة ومساءلة شرسة للحكومة، وحكومة تقودها شخصية برلمانية مرموقة، ومجلس النواب ترأسه شخصية معارضة، والحركة الإسلامية تشارك في السلطة التنفيذية..الخ.
 
كان يفترض أن تتطوّر هذه التجربة وأن تتقدّم إلى الأمام وتأخذ قدراً أكبر من الترشيد والعقلنة ما يصل بمجلس النواب إلى دور سياسي بنّاء وفقاً لصلاحياته الدستورية الحقيقية. لكن ما حدث كان على النقيض تماماً بل نكسة حقيقية وكبيرة في الحياة البرلمانية.
 
قبل الولوج إلى سقف التوقعات الأعلى والأدنى من مجلس النواب القادم، لا بدّ من مناقشة الأسباب التي أدّت إلى تراجع مسار المجلس ودوره في الحياة العامة..
 
السبب الأول بلا شك يكمن في قانون الانتخاب الحالي الذي يحول دون وجود قوى سياسية فاعلة وكتل نيابية متماسكة على أساس أجندة سياسية مشتركة لا علاقات شخصية وجهوية. كما أنّ هذا القانون يدفع بصورة واضحة نحو تغليب الاعتبارات الاجتماعية والخدماتية والزبونية في عملية الاقتراع على الاعتبارات السياسية العامة، وعلى حساب دور الأحزاب.
 
ليس المجال هنا مناسباً لاستعادة المناظرة السياسية الوطنية حول قانون الانتخاب، لكن الإشارة ضرورية إلى أنّ تراجع دور مجلس النواب جاء انعكاساً لتشكّل إدراك رسمي بعد عام 1991 أنّ وجود مجلس نواب قوي وأحزاب سياسية معارضة فاعلة فيه سيكون عبئاً على المسار التفاوضي الأردني وعلى توقيع معاهدة وادي عربة وعلى سياسات التكيف الهيكلي والتشريعات المطلوبة. وقد بدأت منذ تلك الفترة الحياة النيابية تخضع لمعادلات وحسابات العلاقة بين الحكومات المتعاقبة وجماعة الإخوان المسلمين، وصار "الإخوان" بمثابة فزّاعة لعدم تغيير قانون الانتخاب.
 
لا يمكن تجاوز عوامل رئيسة أخرى لعبت دوراً في "النكسة البرلمانية"، وفي مقدمتها تفجّر السؤال الداخلي، بخاصة بعد توقيع اتفاقيتي وادي عربة وأوسلو، وبروز التساؤل حول قضايا الحل النهائي والتوطين والمعادلة السياسية الداخلية، وقد عزّزت هذه العوامل من حجج وذرائع المطالبين بالتأني في مشروع "التحوّل الديموقراطي".
 
خلال السنوات القليلة الماضية تعزّزت القناعة الرسمية أنّ اللحظة التاريخية الحالية هي لحظة حرجة ليست مناسبة لإجراء إصلاحات سياسية بنيوية، بخاصة حول قانون الانتخاب وصيغة البرلمان، وكان أوّل ضحايا هذه القناعة مخرجات الأجندة الوطنية، التي دعت إلى إصلاحات سياسية لا بأس بها وتلبي الحدّ الأدنى من المطالب السياسية العامة.
 
ساهم في تجذير وتعظيم هذه القناعة الظروف الإقليمية المتوترة، وتخلي المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية تماماً عن دعوة الإصلاح السياسي، وعودة الاعتبار للمدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية، تلك المدرسة التي تعطي الأوّلية للأمن القومي الأميركي والمصالح الحيوية على حساب مطلب الإصلاح والديموقراطية، وهو ما وفّر أريحية كبيرة للحكومة الأردنية في التعامل مع مطلب "الإصلاح السياسي".
 
وتبلورت مدرسة داخل مؤسسة صنع القرار تتبنى ما يطلق عليه الزميل د. باسم الطويسي "الغموض البنّاء في مسار التنمية السياسية"، والتي تقوم على دعامات رئيسة:
-   مبدأ "شراء الوقت" وتأجيل أية إصلاحات داخلية إلى حين اتضاح مآلات الحالة الفلسطينية الداخلية وكذلك الوضع في العراق ومسار الأزمة النووية الإيرانية، استناداً إلى فرضية رئيسة أنّ السنتين القادمتين حاسمتان في مصير ومستقبل المنطقة بصورة عامة، ومؤثرتان بصورة خاصة على مستقبل البلاد، لذلك لا بد من تأجيل أي استحقاق إصلاحي داخلي حتى تزول الغيوم الملبّدة من السماء.
-   الموازنة بين مسالتين رئيستين؛ عدم التخلي رسمياً عن مشروع الإصلاح والتنمية السياسية من خلال إجراء الانتخابات البلدية والنيابية والإبقاء على وزارة التنمية السياسية وبعض العناوين والأفكار المتعلّقة؛ لكن في الوقت نفسه وضع حدود صارمة لمساحة اللعبة السياسية ولمجال المعارضة والقوى السياسية الأخرى، والإصرار على تحجيم وإضعاف جماعة الإخوان التي تمثّل الوزن السياسي المعارض الشعبي الأوسع والأكثر نفوذاً في الشارع.
-   العمل على خلق تيار سياسي عريض من فئات مختلفة وبمظلات وعناوين متعددة يكون "معادلاً" شعبياً للحركة الإسلامية والقوى السياسية الأخرى، ما يسمح بفرص وخيارات أكثر في حال جرت عملية انتخابية على أساس القوائم الحزبية أو النسبية.
-   منح الأفضلية للمقاربة الأمنية في صوغ الحياة السياسية الداخلية والخارجية، وتصدّرت النقاشات الرسمية الداخلية مقولة "السياسة في رعاية الأمن"، ما يعني أنّ أية مفاضلة بين طرح إصلاحي في مجالات مختلفة توزن وفق المعايير الأمنية لا السياسية.
 
 الأمانة تقتضي ألاّ نضع المسؤولية كاملة على الحكومة في مسألة تعطّل مسار الإصلاح وتراجع الحياة النيابية، فهنالك بلا شك مسؤولية تقع على عاتق القوى السياسية المختلفة، بخاصة أحزاب المعارضة التي تجنح في خطابها السياسي نحو أيديولوجيا مغرقة بعيداً عن النزعة الواقعية العقلانية. فالأحزاب السياسية وتحديداً الحركة الإسلامية التي تمثل "الثقل الأكبر" في الشارع لا تقدّم أية بدائل أو خيارات واقعية عن السياسات الرسمية الحالية، سواء على المستوى الاقتصادي أو حتى الإداري والسياسي.
    
 ويكفي فقط الوقوف على برنامج الإخوان الانتخابي لنكتشف حجم الفجوة الكبيرة بينه وبين الواقع، وقد كتبت مقالاً قبل أيام عن مضمون هذا البرنامج بعنوان "المدينة الفاضلة في برنامج الإخوان" فالبرنامج أقرب إلى شطحات أو أحلام، لا تتضمن أي مجهود عملي أو فكري جادّ، ويتضمن خطاباً لا تملك الالتزام به حكومة الصين أو روسيا، فما بالك بدولة صغيرة في إقليم عاصف تواجه تحديات داخلية وخارجية سياسية واقتصادية في غاية الخطورة وتناضل من أجل البقاء؟!
 
لو كنت مكان صانع القرار وفكّرت في البرنامج المطروح من قبل المعارضة السياسية لتساءلت كثيراً عن قدرة هذه القوى على التعبير عن مصالح الشعب وأماله وتحدياته. وحتى لا تنالنا – كالعادة- سهام التخوين والإتهام فليس المقصود أن تقوم المعارضة بالتخلي عن مواقفها لكن المطلوب أن تكيف هذه المواقف مع ضرورات الواقع وشروطه، لتكون قادرة فيما لو وصلت إلى البرلمان، وكانت على الأقل تمثل أحزاب الأقلية فيه أن تمثل "حكومة الظل"، التي ترصد السياسات والقرارات وتقدم ما يمكن أن يكون بديلاً عنها.
 
وإذا عدنا إلى أعمال مجلس النواب أو بيانات أحزاب المعارضة خلال السنوات السابقة فإنّك لا تكاد تعثر على أية قراءة رقمية برامجية نقدية لسياسات الحكومة الاقتصادية، إلاّ اللهم بعض المثقفين الذين يقدّمون ذلك باجتهاد خاص، لكنه يبقى "وجهة نظر" فردية.
 
المجلس القادم.. الفرص والمحدّدات
بناء على المحددات السابقة، فإنّ مجريات العملية الانتخابية حالياً لا تشير من قريب ولا من بعيد إلى سيادة معايير موضوعية في الاختيار والتنافس، فهنالك إما غلبة للاعتبارات الاجتماعية والعشائرية في العديد من المحافظات والمناطق، وإمّا حالة خيبة أمل واسعة واستنكاف عن التفاعل مع الحملة الانتخابية.
 
لعلّ العزّاء الرئيس في مواجهة هذا الواقع أنّنا لا نزال في مرحلة "التحول الديموقراطي"، الذي ربما يؤدي بنا في مرحلة معينة مسافة شاسعة إلى الأمام وفي مرحلة أخرى إلى الوراء، لكن على المثقفين والإصلاحيين والقوى المختلفة أن تبحث دوماً عن أفق ومخرج لاستئناف واستمرار مشروع الإصلاح والتحوّل الديموقراطي.
 
وفي سياق المعادلة الحالية فإنّ سقف التوقعات الأعلى من المجلس القادم يتمثّل أن تأتي الأقدار بنخبة من النواب، حتى لو كانت قليلة تقدّم خطاباً مقنعاً، وتؤدي دوراً رقابياً جيداً، مما يعيد الاعتبار لمجلس النواب وصورته لدى الرأي العام التي اكتسبها في المجلس الحادي عشر، عندما كان محركاً رئيساً للجدال الوطني حول السياسات العامة والمساءلة والرقابة والعلاقة مع الحكومة على قاعدة قضايا سياسية كبيرة لا استعراضات شخصية، أو حتى تؤدي النخبة المتميزة من النواب (كما يذهب الزميل ياسر أبو هلالة) دوراً كالدور الذي أدّته "قلة" من النواب في المجلس التشريعي بعد الانتخابات التكميلية عام 1984، فيعيد الشارع الأردني شيئاً من ثقته في المجلس ودوره في الحياة السياسية.
 
ولذلك لو فرضنا، جدلاً، أنّ هنالك تدخّلاً حكومياً في الانتخابات، فليكن لصالح مرشحي المعارضة! أو إذا قدّر لي تقديم النصح، فأنصح بمساعدة نخبة من المرشحين المعارضين الشرسين على الوصول إلى قبة البرلمان، لإعادة النكهة والرونق إلى الحياة النيابية بعد النكسة الحالية!
 
 
تحديات المجلس القادم..
الملاحظة السابقة تضعنا أمام القضية الأساسية الأخطر والأهم في مناقشتنا للحالة البرلمانية ولصورة المجلس القادم. فالمطالبة بوجود قوى أو شخصيات سياسية فاعلة في المجلس هي في المقام الأول مطالبة بالدفاع عن مؤسسة البرلمان، التي تحوّلت إلى مؤسسة خدماتية ثانوية، لا مؤسسة دستورية سياسية تصوغ التشريعات وتؤدي المسؤولية الرقابية. فهنالك تآكل في دور البرلمان والمؤسسات السياسية الدستورية الرسمية لصالح "مؤسسات الظل" التي تقوم بالدور الأكبر في صنع القرار السياسي والاقتصادي.
 
التراجع في دور المؤسسات الدستورية بمثابة مصدر تهديد رئيس للحياة السياسية ويؤدي إلى تفريغها من مضامينها وصلاحياتها وفقدانها الاحترام لدى الرأي العام، ويعزز من النزعات الراديكالية المتطرفة التي لا ترى سبيلاً للإصلاح من خلال المنافذ الشرعية سواء مجلس النواب أو مؤسسات المجتمع المدني، ما يزيد حالة الاحتقان الشعبي ويجذّر الفجوة بين المجتمع والمؤسسات الرسمية، مع ملاحظة أنّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية تدفع بهذا الاتجاه.
 
في هذا السياق فإنّ العنوان الذي يجدر بالقوى الإصلاحية والسياسية أن ترفعه للمرحلة القادمة هو "الأمن في رعاية السياسة"، فإعمال السياسة وإعادة الاعتبار لـ"مؤسسات الشمس" (على حدّ تعبير الزميل سميح المعايطة) وتقوية دعائم المجتمع المدني وتعزيز المناظرات السياسية الداخلية جمعيها مصادر حقيقية لحماية وصون الأمن الوطني على المدى الاستراتيجي وليس التكتيكي الآني.
 
التحدي الثاني الأبرز أمام مجلس النواب القادم يتمثل في إعادة النظر في السياسات الاقتصادية، التي أدّت إلى نتائج إيجابية في مجالات متعددة، بخاصة معدل الناتج الإجمالي، لكن لها تداعيات كارثية في مجالات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، برزت في الآونة الأخيرة، انعكست على حالة الترهل التي يعاني منها القطاع العام، والعجز في ميزان المدفوعات وأزمة المركز- الأطراف، ومعاناة الشريحة الواسعة من ارتفاع معدل التضخم.
 
ومن المعروف أنّ الفترة الأخيرة شهدت ولادة اتجاه رسمي يدعو إلى إعادة النظر في بعض جوانب الإصلاحات الاقتصادية، وقد تجلّى ذلك في بيان رئيس الوزراء (عقب تأجيل رفع اسعار المحروقات) من خلال التمييز بين مدرسة الإنسان والأرقام، لكن المطلوب أن يتبلور هذا الاستدراك الرسمي من خلال مقاربة اقتصادية استراتيجية جديدة، تقوم على التوازن بين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية، وهي المهمة التي قد يساهم فيها مجلس النواب القادم.
 
ليس المطلوب من مجلس النواب أن يكون كابحاً للإصلاح الاقتصادي أو مهرجاناً خطابياً شعبوياً ضد السياسات الاقتصادية القسرية، لكن المطلوب أن يساهم – بصفته ممثلاً للشعب- في بناء المقاربة الاقتصادية المطلوبة، ليحظى برنامج الاصلاح الاقتصادي بمشروعية شعبية، وهو ما يفتقده حالياً بشهادة تقرير مؤسسة كارنيغي الأخير حول "الإصلاح الاقتصادي في الأردن".
 
المهمة الثالثة والضرورية، بل هي شرط لنجاح المجلس في اداء دوره والقيام بمسؤولياته، تتمثل بـ"إصلاح البرلمان" نفسه، ولن أكرر الحديث هنا عن إعادة النظر في "قانون الانتخاب"، بل أتحدّث عن ديناميكية العمل وآليات البرلمان نفسه، وتبرز الأوّلية في هذا السياق في تفعيل دور قسم الدراسات النائم في المجلس، وزيادة عدد أعضائه ودعمه بالباحثين المؤهلين ليوفر للنواب البيانات والمعلومات والوثائق المطلوبة ليؤدوا مهمتهم المفترضة.
 
ومن قضايا الإصلاح البرلماني إعادة النظر في الدورات وزيادة مدتها القانونية بصورة كبيرة، وضبط المصاريف والرحلات، وتقديم جداول بيانية حول مشاركات النواب ومواقفهم كي يتسنى للرأي العام أن يكون رقيباً على آداء المجلس نفسه، ما يساعد على تقوية دوره وتنشيطه وبناء تقييم موضوعي علمي حول أدائه لمسؤولياته التي تشكّل على أساسها..
 
* ورقة عمل قدمها الكاتب محمد ابو رمان في ورشة عمل المسؤولية المجتمعية والا نتخابات التي نضمتها وزارة التنمية السياسية.
http://mohammadaburumman.maktoobblog.com/