مبادرة الصحافة الأمينة خطوة هامة باتجاه التنظيم الذاتي
مع استمرار ارتفاع نسبة الأخبار الكاذبة وفي غياب أي جهة رقابية تساعد المستهلك الإعلامي تحديد الخبر الصادق من الخبر الملفق. فقد اظهرت الدراسات ان الاخبار الكاذبة تتنقل اكثر من الصادقة بنسبة 70%. لذلك أصبح من الضروري إيجاد وسيلة مرئية تضع حد لهذا التخبط المسيء للاعلام والاعلاميين.
طبعا كان ولا يزال جل اهتمام المستهلك عند مواجهة مقال أو تقرير معين الاهتمام بكاتب المقال أو المؤسسة الناشرة واعتماداً على ذاكرته وتجربته يستطيع المتصفح ان يقرر. ولكن مع توسع عدد الاعلاميين والمؤسسات الاعلامية افقياً وعامودياً أصبحت هذه المهمة شبه مستحيلة. يضاف الى ذلك ان سرعة نقل المعلومات وسهولة الوصول اليها وفر للمستهلك العادي عالم كبير من المؤسسات والمواقع الاعلامية والتي يجهل الكثيرون بها. المعضلة الكبرى في هذا الموضوع كان في كيفية الابتعاد عن أي تدخل حكومي في الموضوع وبدل من ذلك العمل على خلق آلية ناجعة ومؤثرة في مجال التنظيم الذاتي للإعلام.
مؤسسة صحفيون بلا حدود هي مؤسسة عالمية مقرها باريس وبالتعاون مع العديد من المؤسسات الدولية قررت العمل مع أكثر من مئة خبير في مجال صدقية الإعلام من حول العالم على مواجهة مشكلة غياب آلية مصداقية الاعلام . وتقرر أن التنظيم الذاتي ممكن من خلال عملية صعبة تنتهي بإعطاء تراخيص لمؤسسات إعلامية تعتبرها ومن خلال بحث معمق وعلى أسس ومعايير دولية بانها مؤسسة اعلامية امينة.
المؤسسة المدافعة عن الصحفيين فضلت الابتعاد عن التركيز على الصحفيين بسبب كثرتهم وبسبب دخول ما يسمى صحفيو المواطن على الأمر. وبدل من ذلك اتخذت المؤسسة التي بادرت بالفكرة نظرة شمولية للأعلام الصادق من خلال مبدأ اعتبار العمل الصحفي عمل متكامل يشمل دور الصحفي والمحرر ورئيس التحرير والسياسة التحريرية وغير ذلك. فبدلا من التركيز على موضوع من هو الصحفي والذي أصبح اليوم أمراً عبثيا تم العمل على محاولة اجراء عملية تهدف الى تصديق من هي الصحيفة أو وسيلة الإعلام الامينة ذات مصداقية بناء على معايير معروفة تشمل مراجعة موسوعة لعمل الصحفي والمحرر والمصور والناشر.
القائمون على "مبادرة الصحافة الامينة" Journalism Trust Initiative قرروا أنه من المستحيل أن يقوموا بالتحقق شخصيا من كل مؤسسة ولذلك تم إنشاء آلية من مستويان. المستوى الأول سمي بالتقييم الذاتي وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الاسئلة تتجاوز مئة سؤال تشمل أساسيات أي عملية نشر مهنية متكاملة. الأسئلة المطروحة تشمل تفاصيل دقيقة عن ملكية المؤسسة الاعلامية وفروعها ونسبة أسهم كافة المالكين كما وتشمل فصل طويل عن السياسة التحريرية وعن كيفية التعامل مع الاحتجاج على ما ينشر وشفافية العلاقة بين المحرر والصحفي بما في ذلك العلاقة مع الصحفيين غير لمتفرغين freelance كما تشمل كيفية التعامل مع الحكومات ورأس المال والشركات وتتضمن العلاقة بين النشر والإعلان والشفافية في إيضاح المادة الاعلانية المدفوعة الأجر من المادة الصحفية بحث وغيرها.
كل هذه التساؤلات يرافقها أسئلة في مجال الإفصاح. فلا يكفي ذكر سطحي للوضع القانوني لوسيلة الإعلام بل يجب نشر وثائقها. ولا يكفي القول منهم المساهمين بل هناك ضرورة نشر وسائل الاتصال بهم وينطبق الأمر نفسه على السياسة التحريرية وعلى سهولة معرفة المتلقي للاعلام كيف يستطيع أن يقدم الشكوى والتأكد من متابعة رد المحررين لها.
المعايير الصحفية كلها تم استقطابها بناء على معايير الاتحاد الأوروبي في مجال الصحافة الصادقة والتي عمل عليها الاتحاد منذ سنوات لكي تصبح معيار معتمد في هذا المجال.
ولكن الأمر لا يتوقف هنا في القائمين على الفكرة وضعوا وسيلة تأكد من الاجابات الذاتية. فبعد الانتهاء من الاجابة على المجموعة الكبيرة من الأسئلة يتم تحويل طلب الشهادة إلى جهة محايدة لكي تقوم بالتأكد من مصداقية الإجابات. فقد تم التعاقد مع مؤسسة ديلويت -فرع استراليا- للقيام بعمليات والتأكيد validation حيث من المفترض أن تقوم المؤسسة الإعلامي بالتعاقد مع هذه المؤسسة العالمية المتخصصة في التدقيق الإداري والمالي لتدقيق مدى مصداقية الإجابات. وفي حال تم التصديق يتم اصدار شهادة ال JTI.
ومن الضروري أن يتم تجديد الشهادة سنويا من خلال اعادة تأكيد المعلومات وتحديث أي تغيير طرأ على ملكية المؤسسة أو انظمتها الداخلية او علاقتها مع المتلقين للاعلام.
طبعا اضافة الى كون العملية مرهقة فإنها مكلفة بعض الشيء. مؤسسة صحفيون بلا حدود تحتسب رسم سنوي بسيط هو مئة يورو لكن شركة ديلويت يتقاضى مبلغ حوالي أربعة آلاف يورو مقابل عملية التدقيق. يتوفر منح لمؤسسات إعلامية صغيرة وغير قادرة ولكن العملية سينتج عنها زيادة في المؤسسات الكبيرة ونسبة أقل للمؤسسات الصغيرة رغم انه من الفائدة الكبيرة للمؤسسات الصغيرة المستقلة ان تدخل هذا المسار.
أحد أهم فوائد عملية الحصول على ختم المصداقية من مؤسسة معروفة مثل صحفيون بلا حدود هو احتمالية زيادة الإقبال على وسيلة الإعلام خاصة عند معرفة الجمهور بأنها حاصلة على ختم المصداقية العالمي. كما من المتوقع أن يزداد داخل المؤسسات الاعلامية من المعلنين ورعاة التجاريون من منطلق المسؤولية الاجتماعية.
وسائل إعلام كندية كانت أول من تقدمت وحصل على هذه الشهادة وتبعتها مؤسسات امريكية واوروبية. الصين هاجمت الفكرة بعنف معتبرة أنه لا يحق تقديم شهادات مصداقية. في العالم العربي لا يزال لغاية كتابة هذه السطور لا يوجد أي مؤسسة حصلت على شهادة المصداقية الصحفية. الفكرة حظيت باهتمام مؤتمر باريس للسلام الذي عقد دورته الرابعة وقد شاركت نائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس في أحد الندوات كما تم تخصيص ندوة للموضوع يوم 12-11 شاركت فيه نائبة رئيس المفوضية الاوروبية فيرا جوروفا المديرة التنفيذية للمنتدى العالمي لتطوير الصحافة وكريغ نيومارك المتبرع السخي للإعلام المستقل ولمشروع JTI وكاتب السطور وادار الجلسة سكرتير عام مؤسسة صحفيون بلا حدود كريستوف ديلوار.
من المؤكد ان مبادرة الصحافة الأمنية لن يحل معظم الإشكاليات في مجال كثرة الأخبار الكاذبة ولكنه سيوفر الية سهلة وبسيطة للمستهلك للتأكد من الخبر إذا كان مصدره مؤسسة حاصلة على شهادة المصداقية أم لا. فكما تتبناها المؤسسات الإدارية والتجارية من الحصول على شهادة ايزو فإن المؤسسات الإعلامية ستكون مجبرة للتماشي مع المتطلبات في الإفصاح عن الملكية والسياسة التحريرية السليمة من أجل الحصول على هذه الشهادة وإبقائها سنة بعد سنة
من ناحية أخرى سيكون هناك ضغوطات من قبل مؤسسات المجتمع المدني والنشطاء على الشركات والحكومات وكل من يصرف مبالغ في مجال الإعلانات ان يتم حصر مدفوعاتها في مجال شراء الاعلان و الرعاية لمن يثبت أنه ذات مصداقية عالية وبشهادة من مؤسسة عالمية موثوقة.
لمن يرغب معرفة أكثر عن المشروع من الممكن تصفح الموقع الاساسي على https://www.journalismtrustinitiative.org
الكاتب مدير عام شبكة الاعلام المجتمعي التي تدير راديو البلد عمان نت في الأردن والتي مرت في المراحل الأولى بنجاح للحصول على شهادة ال JTI