لماذا اكتب؟
لماذا اكتب، و أنا اشك ان احدا في السلطة يبالي ان نطق قلمي أو صمت، و أنا اشعر ان قطار السلطة يمشي، لا يأبه بمثلي أو بغيري، طالما ان الأقلام لا حنجرة لها، و الأفكار لا تبارح عقول أصحابها.
لماذا اكتب، و أنا اعرف ان جل مقالاتي تنتهي في ادراج بعض أذرع السلطة فقط لا غير، تضاف إلى ملفي ليس كصاحب رأي بل كمشاغب، فالصمت في بلادي اصبح عنوان الوطنية لدى البعض، و المصلحة الوطنية يراد لها ان تكون ما ترتأيه السلطة فقط، و عدا ذلك فشغب أو قلة دراية أو طمع بمنصب.
لماذا اكتب، و جل ما افعل هو التعبير عما يقال همسا بين الناس، لكن البعض ممن صقلته تجربة الحكم فهم اللعبة جيدا، و ادرك ان الصمت مفتاح دوام الجاه الاجتماعي بعد ان ينتهي جاه السلطة، كما انه مفتاح الأمل الدائم بالرجوع للمنصب. اما الكلام الصريح و التحليل الناقد فحاشى ان يخرج للعلن، ففي خروجه اضرار بنادي الطبقة السياسية الخائفة ان تكسر حاجز الصمت، و التي تقنع نفسها ان التمنع عن الكلام فيه مصلحة للوطن!
لماذا اكتب، و الكلام داخل المنصب كما خارجه لا يفيد، و الرأي ان قيل للمسؤول شفاهة في السر أو كتابة في العلن هو هو، كلام لا يقدم و لا يؤخر، و الأسئلة التي تطرح لا تجد من يجيب عليها، حتى أضحت الكتابة فعل حاضر ناقص.
لماذا اكتب، و أنا ادندن مع فيروز ، " ما في حدا لا تندهي ما في حدا، بابهن مسكر و العشب غطى الدراج، شو قولكن صاروا صدى؟" فهل وصلت اللامبالاة لدى حكوماتنا حد الصدأ بعد ان وصل الخوف بنا حد الصمت؟
اخطر ما وصلت اليه الثقافة السياسية لدى العديد و لا أقول كل الطبقة السياسية في البلاد هو الصمت، بل الخوف من قول قناعاتها، فالخوف لا يملك أدوات بناء مجتمعات مستقرة و مزدهرة، و الرقابة الذاتية على الآراء اشد ايذاء احيانا من رقابة السلطة. يمنع الخوف النقاش، و يقود غياب النقاش إلى السلطوية المحتكرة للفكر و الرأي، و ينتج عن السلطوية التقوقع، فيقود كل ذلك لمجتمعات خاملة لا يمر في شرايينها اثر لحياة، و لا ينتج عنها تجديد المجتمع فكريا و سياسيا.
كم من نصيحة تلقيتها من أصدقاء و احباء ان فعل الكتابة لا يجدي، لأن النقاش الجاد في بلادي لا اطر له، و الثقافة السياسية في وطني ثقافة صامتة، تأمل في تحسن الأوضاع دون ان تكون مستعدة للمساهمة في ذلك، و المسؤولية دائما على الغير، و المستقبل الزاهر يمكن ان يأتي بالتمني، و التفكير الناقد لا يغدو اكثر من تغريد خارج السرب، و لا يأتي لصاحبه الا بوجع الرأس.
طالما يراد للأفكار في بلادي ان لا تتعدى الجهود الفردية، و طالما يبرمج للأحزاب ان تكون ديكورا نتغنى بضرورته و نعمل في نفس الوقت لتسفيه فاعليتها و منع تطويرها، يبقى الكلام كالكتابة على الرمل، تجرفه الامواج العاتية الآتية من عمق البحر و التي لا ترغب ان يرتاح الشاطيء و لو قليلا.
مع ذلك كله، أقول للأصدقاء انني اجد نفسي اكتب، و يكتب اخرون مثلي، لأن هناك من يرفض ان يعمل وفقا لنظرية الاحتمالات، و حسابات الواقعية السياسية الاردنية. نكتب لأن هناك من يعتقد ان المستقبل الزاهر لا يتحقق الا من خلال جرأة الحلم بعدم التوقف عند الواقع، و لان التأسيس للمستقبل عملية طويلة و لكنها ضرورية. هذا الوطن يستحق منا ان نتجاهل كل هذه الصعوبات، لأن اضعف الايمان ان نكتب.