شهدت العقود الأخيرة من الحروب تطورات هائلة في أدوات القتال ووسائل إدارة المعارك، إلا أن العقد الأخير تحديدًا حمل تحوّلًا نوعيًا مع دخول الطائرات المسيرة (الدرونز) كسلاح رئيسي في ساحات القتال. فقد باتت هذه التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات الجيوش الكبرى، كما استحوذت على اهتمام الفاعلين من غير الدول، مما أحدث تغييرًا جذريًا في مفاهيم الحرب والتكتيك العسكري، بل وحتى في الحسابات السياسية والقانونية المرتبطة بالنزاعات المسلحة.
ظهور المسيرات بوصفها أداة قتالية مؤثرة ليس وليد اللحظة، فقد استُخدمت أولى النماذج البدائية منها في مهام استطلاع خلال الحرب العالمية الأولى. غير أن التطور الحقيقي بدأ مع العقدين الأخيرين حين تبنت الولايات المتحدة استخدام الدرونز في حربها على الإرهاب، خصوصًا في باكستان وأفغانستان واليمن، حيث استخدمت طائرات مثل "ريبر" و"بريديتور" لتنفيذ عمليات اغتيال مركزة ضد قيادات تنظيمات مسلحة. لكن التغيير الأهم لم يكن في القدرة على تنفيذ ضربات عن بُعد فحسب، بل في الجمع بين المراقبة والقتل الدقيق في أداة واحدة منخفضة التكلفة نسبيًا.
أحد أهم أوجه التغيير الذي أحدثته المسيرات هو تقليص الفجوة بين الجيوش النظامية والجهات غير الحكومية، إذ لم يعد احتكار السماء حكرًا على الدول التي تمتلك قوات جوية تقليدية باهظة التكاليف. فمع انخفاض كلفة تصنيع الدرونز وتوفر تقنيات التصوير والتوجيه، باتت جماعات مسلحة مثل الحوثيين وحزب الله تستخدم هذه التكنولوجيا بفاعلية عالية في تنفيذ هجمات، سواء ضد قواعد عسكرية أو منشآت حيوية. بل إن تنظيمات مثل داعش والقاعدة طورت بدورها قدرات هجومية محدودة باستخدام نماذج تجارية من الطائرات المسيّرة.
الحرب في أوكرانيا منذ 2022 شكّلت نقطة تحول فارقة في مسيرة استخدام المسيرات. فقد استخدم الطرفان، الروسي والأوكراني، طائرات بدون طيار بشكل موسّع في مهام الرصد، تصحيح نيران المدفعية، والهجمات الانتحارية. وشهدت ساحة المعركة إدخال نماذج متعددة مثل "بيرقدار" التركية و"شاهد 136" الإيرانية و"لانست" الروسية، ما غيّر قواعد الاشتباك. لم يعد التفوق الجوي يعني فقط السيطرة بالطائرات المقاتلة بل بالقدرة على تعطيل منظومات العدو، وشل خطوط الإمداد، وتوجيه ضربات دقيقة بأقل تكلفة بشرية.
لقد أدى دخول إيران على خط تطوير وتشغيل المسيّرات إلى نقلة نوعية في موازين القوى الإقليمية. فمنذ سنوات، استثمرت إيران بشكل استراتيجي في إنتاج طائرات مسيّرة محليًا، مثل طرازات "شاهد" و"مهاجر"، ونجحت في تصدير هذه التكنولوجيا إلى وكلائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا. لكن الأهم من ذلك أن هذه المسيّرات وجدت طريقها إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، إذ اتُهمت طهران بتزويد موسكو بمسيّرات انتحارية من طراز "شاهد-136"، والتي استخدمت بكثافة لضرب البنية التحتية المدنية والعسكرية الأوكرانية. هذا الاستخدام عابر القارات للمسيّرات الإيرانية يعكس تحول إيران من مجرد لاعب إقليمي إلى مزوّد عالمي للتكنولوجيا العسكرية منخفضة التكلفة، الأمر الذي يثير قلقًا دوليًا متصاعدًا ويغيّر توازنات الردع خارج حدود الشرق الأوسط.
في هذا السياق، تؤكد دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS, 2023) أن المسيرات زادت من فعالية الهجمات بنسبة تصل إلى 40% مقارنةً بالأسلحة التقليدية، لا بسبب دقتها فقط، بل بسبب قدرتها على العمل في ظروف جوية صعبة ولفترات طويلة. كما أن استخدامها في مهام الاستطلاع أدى إلى تقليص زمن اتخاذ القرار بنسبة ملحوظة، مما سرّع من ديناميكية الحرب وجعلها أكثر كثافة.
من الناحية النفسية والمعنوية، أدخلت المسيرات أبعادًا جديدة إلى الحروب. فالخوف من “العدو غير المرئي” الذي يحوم في السماء دون صوت واضح، ويضرب دون إنذار، أوجد حالة من الضغط الدائم على الجنود والسكان على حد سواء. وقد أظهرت تقارير منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن السكان في مناطق مثل اليمن وغزة وسوريا يعانون من توتر مزمن نتيجة الخشية المستمرة من هجمات الدرونز، ما جعل المسيرات أدوات ترهيب جماعي بقدر ما هي أدوات قتال.
وعلى الرغم من الميزات العملياتية التي وفرتها المسيرات، إلا أن استخدامها يثير جدلاً قانونيًا وأخلاقيًا كبيرًا. فتنفيذ اغتيالات دون محاكمة، وضرب أهداف غير مؤكدة أو مزدوجة (مدنية/عسكرية) بواسطة طائرات بدون طيار، يطرح تساؤلات حول مشروعية تلك العمليات بموجب القانون الدولي الإنساني. كما أن استخدام الذكاء الاصطناعي في توجيه بعض المسيرات يزيد من مخاوف فقدان السيطرة البشرية على قرار القتل.
في سياق الحروب المستقبلية، تشير تقديرات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI, 2024) إلى أن المسيرات ستكون جزءًا أساسيًا من أي صراع عسكري قادم، وستدخل في عمليات متكاملة تشمل الذكاء الاصطناعي، الحرب السيبرانية، والتشويش الإلكتروني. كما يتوقع أن تشهد ساحة المعركة ما يُعرف بـ"حروب السرب"، حيث تُستخدم عشرات أو مئات المسيرات في وقت واحد ضمن تكتيكات ذكية تُدار بواسطة خوارزميات، وهو ما سيعيد تعريف موازين القوة.
حتى الجيوش التقليدية باتت تراجع عقيدتها القتالية مع تزايد الاعتماد على المسيرات. فمثلاً، أعلنت وزارة الدفاع البريطانية عام 2024 عن خطط لإعادة هيكلة قواتها البرية بحيث تضم وحدات مختصة بتشغيل طائرات دون طيار، كما أطلقت الصين والولايات المتحدة برامج تطوير لمسيرات بحرية وأخرى فضائية، مما يفتح الباب أمام "رقمنة" ساحات المعركة بشكل غير مسبوق.
في المحصلة، غيّرت المسيرات جوهر الحروب الحديثة من حيث التكلفة والفعالية والتكتيك والمعنويات. لم تعد القوة النارية وحدها معيار الحسم، بل القدرة على التخفي، المراقبة المستمرة، وتوجيه ضربات دقيقة من بعد. ومع تزايد استخدام الذكاء الاصطناعي في التحكم بها، فإن ما نشهده اليوم ليس سوى بداية لتحول جذري في طبيعة الحرب، يتطلب من صانعي القرار وقادة الجيوش وحتى الفقهاء القانونيين إعادة التفكير في كيفية التعامل مع واقع عسكري جديد، حيث السلاح الأرخص قد يكون هو الأشد فتكًا.











































