قمّة الجزائر... إكرام الميت دفنه

الرابط المختصر

لطالما كانت القمم العربية محلّ نكتة وتندّر لدى غالبية الشارع العربي، الذي لم يكن ينتظر، منذ عقود، منها شيئاً يُذكر سوى المواقف الخشبية والوعود غير المطبّقة. ومع ذلك لا ننكر اليوم أنّنا أصبحنا "نشتاق" لتلك القمم، لما كان فيها على الأقل من نفَس قوميٍّ، وادعاءات تقول إنّ النظام العربي على قيد الحياة، ولما فيها من خطابات حماسية تجتذب الجماهير!

 

لم تخلُ القمم العربية منذ الخمسينيات إلى بداية عقد التسعينيات من بريق سياسي وإعلامي، وقرارات جدلية ومراقبة واهتمام جماهيري، وقد يكون جيل السبعينيات وبعض من جيل الثمانينيات (مواليد هذه العقود) آخر شهود تلك القمم. أمّا الأجيال اللاحقة، فلا أظن (وأغلب الظنّ ليس إثماً) أنّها تتذكّر أي قمّة، ولو على سبيل النكتة والفكاهة.

يبدو الحال مع اقتراب قمّة الجزائر، الأسبوع الجاري، أنّ الحاضرين (مرجّح أن يغيب عنها قادة بارزون) يذهبون خجلاً أو أداء واجبٍ باهت، يجرّون أنفسهم إليها جرّاً، فهم (الزعماء) يدركون تماماً أنّه لم تعد لها أي قيمة استراتيجية، ولا حتى رمزية بعد أن أصبحت القمم باهتة.

 

لم تعد الأنظمة العربية تتنافس حتى على دعوى من يمثّل القومية العربية وحلم الجماهير، ولم يعد أحد يعبأ بالجماهير، ولا الجماهير تعتقد أنّها معنية بهذا الفلكلور السياسي، طالما أنّه لم يعد أحدٌ يتحدّث عن تحرير فلسطين وعن دعم المقاومة أو حتى عن توحيد الموقف العربي تجاه القضايا الدولية والإقليمية، لا أحد يقف مع الآخر، حرفياً، في الحالة العربية اليوم، وحتى الصداقات الظاهرية فلا تعكس حقيقة المواقف السياسي ومنظور كل دولة إلى مصالحها الاستراتيجية.

 

نعم، انتهت حقبة الزعامات الكاريزمية، وتلاشت الأنظمة الثورية القومية التي تحاول قيادة النظام العربي، وتغيّرت الخريطة الاستراتيجية، فبعد أن كانت فلسطين هي القضية المركزية على طاولة الزعماء، وفي مقدّمات خطاباتهم النارية، فإنّ كثيرين لم يعودوا يوارون تراجع اهتمامهم بها، فيما بات النظر لدى عديد من هذه الأنظمة إلى النفوذ الإيراني والدور التركي أكثر خطورةً من الحديث عن الكيان الإسرائيلي، الذي كاد يصبح جزءاً من منظومة إقليمية، شرق أوسطية، جديدة علناً من خلال طرح أفكار "الناتو العربي"، في مواجهة إيران.

 

هل يعني ذلك تراجع المشاعر القومية والعروبية في العالم العربي؟ لا يمكن القفز إلى هذا الاستنتاج في الحدّ الأدنى على صعيد الشارع العربي. ولعلّ ملاحظة الباحث الأميركي مارك لينش (في كتابه عن الربيع العربي) توضح ذلك؛ إذ لاحظ أنّ أحلام الوحدة العربية والمشاعر القومية تُرجمَت بصورة عملية من خلال حالة التضامن والتفاعل المشترك بين الشباب العربي في مرحلة الانتفاضات والثورات، وقد تمكّن هذا الجيل الشاب من صناعة محتوى جديد للقومية العربية، يتجاوز الخطابات الكاريزمية والشعارات الرسمية من النظام العربي، وأن يؤطر مفهوماً جديداً يتم من خلال صوغ شعارات وأولويات ومفاهيم جديدة. وكان الشعار المعروف "حرية، عدالة، كرامة إنسانية" يتردد صداه في عواصم عربية عديدة، ويجري استنساخ الهتافات والأدوات والأساليب المستخدمة في الاحتجاجات من حالة إلى أخرى.

 

ما اندثر وانهار هو في الحقيقة النظام الرسمي العربي بصيغته السابقة، لذلك تترنّح القمم العربية، فهي لا تنتمي إلى الجيل العربي الجديد، الذي لا يذكُر أو يتذكّر تلك الخطابات الرنّانة والخطب العصماء، فهو لم يشاهدها ولم يعشها، ولم تعد (القمم العربية) تحظى بأي أهمية لدى النظم العربية التي تجاوزت المفاهيم التي أسّست لتلك القمم، ولم يعد أحدٌ من الحكام العرب يدّعي اليوم أنّ هذه القمم يمكن أن تغير شيئاً أو تعكس مصالح مشتركة ورؤية موحّدة للقضايا والأولويات القومية، وإذا كانت هنالك خدمة يمكن أن تقدّم لهذه القمم، فهي تطبيق المثل العربي "إكرام الميت دفنه".

العربي الجديد